Page 86 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 86
العـدد 24 84
ديسمبر ٢٠٢٠
شوقي الصليعي
(تونس)
جّنية القريض
لهفي على دع ٍد وما خلقت خلال ال ُحزمة الثانية من قصائدها اللازورد ّية التي
إلا لفرط تلهفي دعد. كتب بعضها بروح ُمختلفة ملؤها الحدس ،في متاهة
دوقلة المنبجي ُمشفرة من المعاني كأ ّنها مكتوب غرامي س ّري كانت
ال ّدلالات أكثر ذاتيّه ُتشع بروح أنثوية لم تكن تتجلى
فمكث ُمتج ّمدا في موضعه لا ُي ْصدر غير تنفس في الأشعار الأولى ،في لمحة ُمبهمة من ال ّسحر تتراوح
ُمو ّقع ،خشية أن يتلاشى ذلك العطف المُتد ّفق .يغمره بين الواقعية والخيال ،تناولها هاشم ب ُحرقة وكأ ّنه
شعور من الونس بتلك الأنفاس ،فيندفع ُيحاكيها عن يفتش عن س ّر غامض وطفق يطالعها لي ًل في غرفته
المعزولة وعيناه تع ُبران من طالع كل قصيد إلى سواه،
عالمه المجهول ،فلا يغمض له جفن وكلما تجلى ذلك حتّى التقت ُمقلتاه بخلطة الكلمات التي صار يتش ّممها
المُحيّا العلوي وتو ّضح ،أخذته رجفة فصار أقرب إلى
بلهفة تحاكي نشوة «غرانوي» بطل رواية العطر
الهذيان .كان ذلك المخلوق النّوراني يشع ويختفي
كسنا البرق وصادف أن تألق في ُمخيلته ورسخ بروائح ضحاياه وهو ما ينفك يقول:
فصار أدنى إليه من حبل الوريد ،و ْج ًها ليس له عمر،
ينطبع في ذاكرته وكأ ّنه يقول له «أغ ًدا ألقاك» وكان ليلتي هذه عروس من ال ّزنج عليها قلائد من ُجمان.
هاشم على يقين راسخ من لقائه في ذلك الغد الموعود ظ ّل ساد ًرا في ُحلمه يعتريه ش ُعور غريب ،تتألق
وهو لا يعلم إن كان سيزوره في شكل ُمم ّوه أم فيه المعاني بطريقة تبدو قابلة للتّشكل في صورة
صريح. مخلوقات جميلة ..تتب ّدى في هيئة ملائكة ُمجنّحة ،أو
نزل في ال ّصباح للتر ّيض بال ّسير في شوارع المدينة عرائس بحر ّية ،كائنات ُمتجانسة من عالم الفراديس،
ويبدو أن كلا ًما ُيشبه الحلم قد م ّر فوق مسامعه، ذات طبيعة ُمو ّحدة تمتلك ق ّوة روحيّة قابلة للتج ّسد،
فقاده إلى حيث شاءت ي ُد القدر وانتهى به المطاف
إلى الحدائق العامرة بجموع المُتنزهين ،قرب البحيرة تطل عليه فتكاد ُترى ولا ترى ..ضباب لوجه لا
عمر له وكان يطلق عليها كلما لاح طيفها اسم جنّية
ال ّساكنة حيث يسبح البط والإوز وطيور النّحام
الوردي تتج ّول باحثة عن قوت أو تقف على ُسوقها القريض .وها هو لطول تأ ّمله الحالم ،يشعر بهالة من
الأثير ال ّدافئ ،في هيئة كائن بشري تحنو عليه فوق
ال ّدقيقة وأعناقها الوجلة تتل ّوى ذات اليمين وذات هامته ،فتغمره بال ّدفء في مضجعه ،كأ ّم تعكف على
الشمال ،والبجعات الثلجية تعبث بأجنحتها التي وليدها دون أن تم ّسه ،في مزيج من ال ّرهبة والحنان
تحاكي أشرعة المراكب وتنزلق في المدى ال ّرحب لعمق
البحيرة فتنساق رعشات المياه خلفها بتموجات تلاحق
جسدها القطني ،فلم يشعر إلا وك ّف صبي ُمش ّرد