Page 10 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 10

‫العـدد ‪23‬‬    ‫‪8‬‬

                                                              ‫نوفمبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫د‪.‬عماد عبد اللطيف‬

‫هل تموت البلاغة؟‬

‫إن تابوت البلاغة الذي حمله بعضهم على أكتافهم‪ ،‬وتلفحوا بالسواد‪ ،‬فارغ‪،‬‬
‫بلا جثة‪ .‬فالبلاغة ح َّية تراها وأنت تسير في الطرقات‪ ،‬في شكل لافتات‬
‫إعلانية ملتصقة بحائط قديم‪ ،‬أو رموز وأيقونات دعائية مشدودة بين‬
‫عمودي إنارة الطريق‪ ،‬أو أصوات وعظ تتدفق من مكبرات صوت مسجد‬
‫صغير‪ .‬فإن أدركك التعب ووقف َت لتستريح‪ ،‬ستستمع إليها في شكل جدال‬
‫بين بائع متجول ومشتر مساوم‪ ،‬أو حوار بين عابر طريق ومتسول لحوح‪،‬‬
‫أو محادثة بين شاب مغ ٍو وفتاة بريئة‪.‬‬

    ‫هوت البلاغة في أعماق سحيقة‪ ،‬إلى ح ٍّد ُيستحسن معه‬           ‫ك ُثر من ينعون البلاغة‪ ،‬ويقيمون لها سرادقات العزاء‪.‬‬
   ‫تركها تهوي‪ :‬لتبتلعها فوهة النسيان‪ ،‬بد ًل من أن ُنتعب‬
 ‫أنفسنا بها»(‪ ،)2‬ثم إعلان صمويل يسلنج ‪Samuel Ijsling‬‬           ‫فلا يكاد ينقضي عام حتى نقرأ أو نسمع سرديات «موت‬
  ‫بأن البلاغة «انحدرت إلى سوء السمعة»‪ ،‬مختتمة سردية‬              ‫البلاغة»‪ ،‬و»اندثارها»‪ .‬تتكون كتيبة نائحي البلاغة من‬
   ‫موت علم البلاغة بعبارة غير صريحة لبول ريكور‪Paul‬‬
    ‫‪ُ ،Ricoeur‬يعلن فيها أنه سيشرع في دراسة علم ميت؛‬           ‫خليط من المن ِذرين‪ ،‬والوائدين‪ .‬يخشى المنذرون على البلاغة‬
                                                                  ‫من علامات قرب الأجل‪ ،‬وحتم المصير‪ .‬أما الوائدون‪،‬‬
                                  ‫يعني البلاغة(‪.)3‬‬
‫باستثناء عبارة ريكور‪ ،‬يمكن للبلاغة أن تعني الكلام البليغ‬         ‫فيحفرون ‪-‬لأسباب شتى‪ -‬قبرها‪ ،‬على أمل أن يواروها‬
                                                              ‫حيّة في قبر التاريخ‪ .‬فريق يبكي البلاغة بوصفها عل ًما؛ بأن‬
  ‫والعلم الذي يدرسه م ًعا في العبارات السابقة‪ .‬على خلاف‬       ‫ينفي عنها مبرر وجودها وضرورتها‪ .‬وفريق ينعى البلاغة‬
   ‫ذلك‪ُ ،‬يميز تيري إيجلتون ‪ Terry Eagleton‬بين البلاغة‬         ‫بوصفها نصو ًصا وكلا ًما؛ متحس ًرا على انتهاء زمن الكلام‬
    ‫بوصفها كلا ًما جمي ًل‪ ،‬والبلاغة بوصفها عل ًما لدراسة‬
  ‫هذا القول‪ ،‬ويتنبأ للأولى بالموت‪ ،‬ويهب الثانية قبل ًة لحياة‬                                           ‫البليغ‪.‬‬
                                                                ‫يبدو أن الرغبة في إماتة البلاغة قديمة ِق َدم ولادتها‪ .‬فقد‬
                                          ‫طويلة‪.‬‬               ‫قام أفلاطون‪ ،‬الذي ُيحتمل أن يكون هو نفسه من اخترع‬
    ‫ُينذر إيجلتون بأن البلاغة بوصفها الكلام الجميل ربما‬         ‫كلمة ‪ ،rhetoric‬بأشرس محاولة لدفنها والتخلص منها‪.‬‬
                                                                ‫ومنذ د ّشن أفلاطون محاولة قتل فاشلة‪ ،‬عاشت البلاغة‬
      ‫تكون مؤذنة بالزوال‪ .‬ففي أكتوبر ‪ 2012‬نشر مقالة‬            ‫والفلسفة حالة عداء مستحكم‪ ،‬إلى أن تنهد باحث في علوم‬
‫قصيرة بعنوان «موت البلاغة»‪ ،‬يرى فيها أن العالم المعاصر‬            ‫التواصل في منتصف ثمانينيات القرن العشرين قائ ًل‪:‬‬
                                                                 ‫«ماتت الفلسفة؛ لذا ُيمكن للبلاغة أن تولد من جديد»(‪.)1‬‬
      ‫المشغول بالتقنية‪ ،‬والاستهلاك‪ ،‬غير قادر على إدراك‬
  ‫الخصائص البلاغية والجمالية للنصوص وتقديرها‪ .‬ومن‬                      ‫وكأن العلوم لا تحيا إلا على أشلاء علوم أخرى‪.‬‬
                                                               ‫علاوة على النزعات المتحفزة لقتل البلاغة‪ ،‬فقد أُعلن مرات‬
    ‫ث ّم‪ ،‬فإن اللغة الموحية المكثفة المنشغلة بجمالها الخاص‬    ‫عديدة وفا َتها طبيعيًّا؛ إذ تتبعت جين ستون ‪Jane Sutton‬‬
  ‫ربما تتلاشى في المستقبل القريب(‪ .)4‬ومفهوم البلاغة كما‬        ‫في دراسة مشوقة المناسبات التي أُعلنت فيها وفاة البلاغة‬
 ‫يستعمله إيجلتون في هذا المقال يشير إلى اللغة التي تتسم‬         ‫في العصر الحديث فبدأت تأريخها بتصريح شهير للناقد‬

     ‫بالجمالية كما تتجسد على أفضل نحو في لغة الشعر‪.‬‬               ‫الإنجليزي آي‪ .‬إيه‪ .‬ريتشاردز ‪« :I. A. Richards‬لقد‬
   ‫وهي مفا ِرقة جذر ًّيا للغة الأداتية‪ ،‬التي تقتصر وظائفها‬
   5   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15