Page 12 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 12
العـدد 23 10
نوفمبر ٢٠٢٠
أما ادعاء موت البلاغة بسبب سوء السمعة ،فهو نموذج
للحجة الرديئة .نعمُ ،تل َصق بالبلاغة نعوت شيطانية حين
تكون مطيَّة للشر والتلاعب والتمييز والقهر والعنصرية
والإقصاء والاستغلال ،لكنها ُتنع ُت كذلك بنعوت سماوية
حين تكون أداة للتفاهم ،ونبذ العنف ،والمساواة ،والشفافية،
والتعايش ،والجمال .وإذا كان ثمة بلاغات رديئة ،فهناك
أي ًضا بلاغات خيّرة .وإذا كان بعض البلاغيين يح ِّولون علم
البلاغة إلى معرفة غير أخلاقيّة بامتياز ،فإن هناك آخرين
حرصوا بقوة أن تكون عل ًما أخلاقيًّا بامتياز.
تبدو تنبؤات إيجلتون بموت البلاغة؛ بسبب قرب اندثار
الشعر أكثر هشاشة مما سبقها .فالبلاغة ليست الشعر
وحده ،وليس الشعر وحده المستعين باللغة الموحية
الجميلة ،وإن سلَّمنا جد ًل بأن حقل اللغة الموحية الجميلة
يشرف على الجدب في زمننا الراهن –وف ًقا لإيجلتون– فإن
حقول اللغة المقنعة المؤثرة تزدهر على نحو جلي .لقد
أصبح البشر محاطين بالرسائل البلاغية .وحيثما يولون
وجوههم ،فث ّم علامات لغوية وغير لغوية تستهدف
إقناعهم ،والتأثير فيهم ،وهذه هي البلاغة .ولو أننا وافقنا
إيجلتون على تصوره بأن البليغ هو الشعري /الجميل ،فإن
زمننا الراهن أعاد إنتاج الأقوال الجميلة في صيغ أخرى،
مثل العبارات الأدبية في الإعلان والدعاية ،التي ُتنتِج لغ ًة
موحي ًة مكثف ًة ،توهم بأنها منشغلة بجمالها الخاص ،في
حين أنها ُتنجز من الوظائف النفعية الكثير .تما ًما مثل إيهام
الشعر بأنه منشغل بنفسه ،في حين أنه ُينجز أغرا ًضا لا
تق ُّل عمليَّة عن نشرة إرشادات استعمال هاتف محمول.
ويكفي فقط أن نتذكر الوظائف العملية للشعر العربي على
مدار عصوره المختلفة للتسليم بهذا الرأي .فقد كان الشعر
ُع َّدة حرب ،ورسول سلام ،سلاح ماد ٍح أو ه َّجاء يقطع
به طريق القادرين على العطاء ،ذاكرة قبائل ،وتاريخ أيام،
فخ أنثى ،وتعويذة استجلاب خير الإله ،وغيرها .علاوة
على ذلك ،فإن التسليم بدعوى إيجلتون نفسها لا يمكن أن
يكون؛ فقد أثبت عصرنا نفسه ،أنه كلما أوغل الإنسان في
الحياة المادية ،زادت حاجته إلى اللغة الجميلة الموحية؛ كي
يحقق تواز ًنا نفسيًّا في هذه الحياة .لكن الإنسان المعاصر
ربما يجد في الأغاني والسينما والرواية ،وليس الشعر ،ما
يلبي حاجاته من اللغة الجميلة الموحية ،وهي بدورها أنواع
أدبية يمكن دراستها بلاغيًّا.
وأخي ًرا ،فإن ادعاء موت البلاغة بحجة ظهور علوم جديدة
ترثها ،أو تزيحها ،لا يقل مغايرة للواقع ع َّما سبقه من