Page 13 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 13
11 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
ادعاءات .نعم ،قرأنا كثي ًرا من نعي البلاغة على صفحات أفلاطون
الأسلوبيين وأصحاب النقد الثقافي ،والفلسفة ،والمنطق
الوضعي ،وغيرهم ،ممن يرون أن العلوم لا تقوم إلا
على أنقاض غيرها .وهي ادعاءات ترجع إلى ضعف تم ُّثل
الخصوصيات المعرفية للعلوم المختلفة .فظ َّن البع ُض أن
الأسلوبية هي البلاغة مح ّدث ًة؛ فلا حاجة إلى القديمة ،وأن
النقد الثقافي بديل عصري للبلاغة والنقد م ًعا ،فلا حاجة
إلى القديم .وفاتهم أن مشروعية إنشاء معارف جديدة
تنبع من وجود حاجة لا تلبيها المعارف القديمة .وأن ظهور
علم جديد لا يتطلب بالضرورة «قتل» علم قائم .وسنرى
فيما سيأتي كيف تم َّكنت البلاغة من الاحتفاظ
بشرعية وجودها بوصفها حق ًل معرفيًّا على
الرغم من محاولات الإزاحة والإقصاء ،وسنرى
كيف استطاعت تقديم نموذج للتعايش مع غيرها
من الحقول المعرفية وثيقة الصلة ،ونحن ندرس
التوجهات البلاغية المعاصرة في البلاغتين الغربية
والعربية.
إن تابوت البلاغة الذي حمله بعضهم على أكتافهم،
وتلفحوا بالسواد ،فارغ ،بلا جثة .فالبلاغة حيَّة تراها
وأنت تسير في الطرقات ،في شكل لافتات إعلانية ملتصقة
بحائط قديم ،أو رموز وأيقونات دعائية مشدودة بين
عمودي إنارة الطريق ،أو أصوات وعظ تتدفق من مكبرات
صوت مسجد صغير .فإن أدركك التعب ووقف َت لتستريح،
ستستمع إليها في شكل جدال بين بائع متجول ومشتر
مساوم ،أو حوار بين عابر طريق ومتسول لحوح ،أو
محادثة بين شاب مغ ٍو وفتاة بريئة .فإن ُعد َت إلى بيتك
ستجد البلاغة تنتظرك في شكل سرديات أفراد الأسرة عن
يومهم الطويل ،أو تقنيات حجاج معقدة تستعملها أم تقنع
طفلها بإنهاء طعامه ،أو أنواع استمالة بارعة يستعملها
الأبناء لحمل والديهم على تلبية ما يريدون .حتى في
نومك ،ستتوالى الصور على مخيلتك لتصنع توجهك نحو
يومك التالي ،ونحو الآخرين .باختصار ،حيثما وجد بشر
يتواصلون ،يمكنك رؤية البلاغة حيّة بينهم ،كلا ًما ،وعل ًما.
البلاغة تتجدد .تلك حقيقة ساطعة .ربما كان الفشل في
إدراكها سببًا للحكم على البلاغة بالموت .فالجديد ُيخفي
القديم ،ويوهم بأنه لم يعد حيًّا .لكن نظر ًة ثاقب ًة تكشف أن
القديم ح ٌّي في جديده ،لا ينفصلان