Page 101 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 101

‫نون النسوة ‪9 9‬‬

     ‫مؤكد أنه يحوي داخله بعض من سعادة يجب‬                ‫ومازال عم جبر مستشاره الوفي‪ ،‬خاصة وقت‬
      ‫استعادتها سري ًعا‪ ،‬قبل أن يعلو الحزن اللعين‬                                          ‫التلحين‪..‬‬
     ‫في المرآة‪ ،‬ويشهر سلاحه بحجة مرور الزمن‪،‬‬
                                                        ‫«استغل أقسى اللحظات في حياتك‪ ،‬وكل تفاهات‬
                           ‫وضرورة الاستسلام‪.‬‬           ‫البشر من حولك‪ ،‬واعتبر كل ذلك كنغمات «الدو»‬
   ‫وأصبح مبرره بمرور بعض الوقت‪ ،‬في غفلة من‬
                                                           ‫القاسية‪ ،‬وبلغتكم يا بني «علم عليها»‪ ،‬ثم قم‬
                 ‫وساوس الوحدة وأوجاع الفقد‪..‬‬           ‫بوضعها في مكانها المستحق‪ ،‬اتركهم بعيدين قدر‬
  ‫‪ -‬من نحن البشر‪ ،‬كي نحدد نهاية آلة تشعر أكثر‬
                                                                       ‫المستطاع عن ُسلمك الموسيقي‪..‬‬
    ‫من البعض‪ ،‬بل نحكم وبكل قسوة بموت أرواح‬            ‫وكي تصعد وتصل لأرق النغمات في الأعلى‪ ،‬تذكر‬
                                    ‫متعلقة بها؟!‬
                                                           ‫أنك بدون الـ «دو و الـ ري» للأسف ودون‬
      ‫وبعد مرور عدة أشهر‪ ،‬وقبل إحدى الحفلات‬              ‫تخطيهما‪ ،‬لن تصل لأعذب النغمات في حياتك»‪.‬‬
‫الهامة‪ ،‬طلب منه «د‪.‬عوض» ‪-‬الذي أصبح مايسترو‬               ‫وفي إحدى البروفات‪ ،‬ورغم مهارته ومن قبلها‬
                                                     ‫حكمته‪ ،‬استجاب عم جبر لـ»نداهه» المرحلة اللعينة‪.‬‬
     ‫الفرقة‪ -‬العودة للعزف‪ ،‬خاصة بعدما قرأ أحد‬
                ‫مؤلفاته‪ ،‬التي قد أعجب بها كثي ًرا‪.‬‬         ‫لأول مرة في حياته يضيق أفقه وقت العزف‪،‬‬
                                                       ‫ويصبح مداه أكثر ضي ًقا من سقف المكان‪ ،‬وكأن‬
‫أثناء العزف بدأ عم جبر في البكاء‪ ،‬خاصة مع بداية‬
‫سماع صوت البيانو‪ ،‬وكأنه يساعده في رفع ألحانه‪،‬‬            ‫دعاءه لشفاء ولده الوحيد يرتد عليه مستهز ًئا‪،‬‬
                                                       ‫حتى تزاحمت الأسئلة في عقله صاخبة كأصوات‬
                    ‫والتي باتت أقرب للابتهالات‪.‬‬
‫عادت القاعة أوسع وأكثر برا ًحا كما كان يشعر بها‬                            ‫طبول تؤكد اقتراب النهاية‪.‬‬
                                                       ‫‪ -‬لماذا إذن بعد ف ْقد زوجتي يحكم عليّ بذلك؟! ألا‬
                                         ‫ساب ًقا‪،‬‬    ‫بد من مزيد من المعاناة من أجل اتزان معادلة الفن‬
‫بدأ يسمع صوت النجوم تعيد صدى ما ألفه وكأنها‬
                                                                            ‫والإبداع الأكثر حساسية؟‬
  ‫تؤكد له استجابة دعائه‪ ،‬بل قد سمح لروحه بأن‬            ‫‪ -‬أين العدل إذن؟! أنا لم أصعد طوال حياتي إلا‬
      ‫تسمو وترتقي لمكان أبعد وأنقى كي يلقى فيه‬          ‫درجات ُسلم وهمية‪ ،‬لم أتم َّن في حياتي أكثر من‬
     ‫التحية على أرواح كل أحبائه‪ ،‬ويبلغهم أشواقه‬          ‫يصبح ابني قائد أوركسترا عظي ًما‪ ،‬وأن أصبح‬
                              ‫ومحبته الخالصة‪.‬‬
              ‫ع َّم المكان صفاء قد افتقده من زمن‪،‬‬                            ‫مجرد عازف مخلص له‪.‬‬
      ‫وقف الحضور يصفقون كثي ًرا بعيون ملأتها‬             ‫أل َقى عم جبر بالكمان على الأرض غاضبًا منها‪،‬‬
     ‫الدموع والامتنان‪ ،‬وكأنهم يشكروه على ما قد‬       ‫بعدما قرر في النهاية ترك التحليق لمن يحمل أجنحة‬
                             ‫وصل منهم بسببه‪.‬‬
                                                                                      ‫إضافية للوهم‪.‬‬
 ‫ووسط دموعه التي لم تتوقف‪ ،‬بدأ د‪.‬عوض بتحية‬           ‫مرت سنوات‪ ،‬انقطعت روحه فيها عن الصعود‪ ،‬عن‬
    ‫عم جبر‪ ،‬كعازف الكمان الأول للفرقة‪ ،‬بل ق ّدمه‬
                                                                                     ‫الحلم والطيران‪.‬‬
 ‫على أنه والده الروحي الأكثر وفا ًء وإخلا ًصا للفن‪،‬‬        ‫انحصر دوره في عمل تصليحات لكل الآلات‬
      ‫وعرفت القطعة الموسيقية بعد ذلك بـ(جبر أوتار)‬     ‫المجروح أوتارها ‪-‬كروحه من الداخل‪ -‬ومحاولة‬
                                                       ‫طلاء المخدوش أخشابها‪ ،‬كثنايات التجاعيد‪ ،‬التي‬
                                                         ‫كما تداري نقص سوائل فهي تذكر بعمر فات‪،‬‬
   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106