Page 117 - Nn
P. 117

‫نون النسوة ‪1 1 5‬‬                                           ‫المدفون في العفيفي أحد الباشوات من أبنائهما‪.‬‬
                                                           ‫رشيد باشا الثالث حكايته مثيرة‪ ،‬كان جركس ّي‬
 ‫ضمن مؤسسي الجمعية الجغرافية في ‪ ،١٨٧٥‬وفي‬                   ‫الأصل ويتحدث العربية بلكنة‪ .‬يأتي ذكره عند‬
     ‫‪ ١٨٧٦‬كان عض ًوا في المجلس الخصوصي‪ :‬أي‬
                                                              ‫المؤرخ إلياس الأيوبي في وصفه للحملة التي‬
  ‫مجلس الوزراء؛ حيث شغل وظيفة رئيس مجلس‬                     ‫أرسلها الخديوي إسماعيل لاستعمار الحبشة‪.‬‬
   ‫حسبي مصر(‪ :)5‬أي وزارة المالية‪ .‬ورأس مجلس‬                ‫استق ّل مع قواد الحملة الباخرة «الدقهلية» وبلغ‬
  ‫شورى النواب في آخر دورات انعقاده تحت حكم‬             ‫« ُم َص ّوع» في الحبشة في ‪ ١٤‬ديسمبر ‪ .١٨٧٥‬يصف‬
                                                           ‫الأيوبي بابل اللغات على الباخرة‪ :‬رئيس الحملة‬
      ‫الخديوي إسماعيل من يناير ‪ ١٨٧٨‬إلى أبريل‬          ‫راتب باشا السردار ترك ّي‪ ،‬ورئيس الأركان الجنرال‬
   ‫‪ .)6(١٨٧٩‬لا توجد معلومات عن أصله أو حياته‪،‬‬            ‫لورنج أمريك ّي‪ ،‬أما باقي القادة فأتراك وجراكسة‬
‫ولكن يأتي اسمه ضمن أعضاء جمعية المعارف التي‬            ‫وأمريكان ونمساويون وألمان وأحدهم إيطالي اعتنق‬
 ‫أُسست في ‪ ،١٨٦٨‬مما يعني أنه كما يقول الرافعي‪:‬‬
                                                                              ‫الإسلام وآخر سوداني(‪.)1‬‬
             ‫«من الطبقات الممتازة من المجتمع»(‪.)7‬‬           ‫يكتب الأيوبي أن الأتراك والجراكسة بما فيهم‬
    ‫بدا لي رشيد باشا الأخير ‪-‬كما يقولون في لغة‬           ‫راتب السردار ورشيد باشا هذا قرروا ألا يطيعوا‬
    ‫التحقيقات البوليسية‪ -‬الشخص مح ّل الاهتمام‪.‬‬         ‫الجنرال لورنج ووضعوا أمامه العراقيل‪ ،‬رغم أنهم‬
  ‫إذا كان هو صاحب المدفن الذي ترقد فيه عنايات‬               ‫جهلة بفنون الحرب‪ ،‬واستم ّرت الفوضى حتى‬
 ‫فسأعود إليه بالتأكيد‪ ،‬ولكن عليَّ أن أؤكد ذلك أو ًل‬    ‫وصل جيش النجاش ّي إلى حصنهم في منطقة اسمها‬
                                                         ‫(قرع) في ‪ ٧‬مارس ‪ ،١٨٧٦‬ف ُهزم الجيش المصري‬
                          ‫بأن أرى المدفن بعين ّي‪.‬‬           ‫وكان عدد القتلى منه ‪ ،٣٢٧٣‬والجرحى ‪،١٤١٦‬‬
‫أخذ السائق طريق صلاح سالم حتى ميدان السيدة‬              ‫ومن نجوا كانوا ‪ ٥٣٠‬فر ًدا فقط‪ .‬سقط رشيد باشا‬
‫عائشة‪ ،‬اتجه يمينًا لعدة دقائق‪ ،‬وأنزلني عند مدخل‬        ‫مض َّر ًجا في دمائه فانقض عليه الحبش وجردوه من‬
 ‫في سور‪ ،‬وقال لي اسألي وستجدين ألف َمن يدلّك‪.‬‬           ‫ثيابه‪ ،‬واقتسموها بينهم‪ ،‬ثم خصوه وذهبوا للفتك‬
                                                        ‫بغيره(‪ .)2‬وهو ما يعني أن رشيد باشا هذا مدفون‬
    ‫مشي ُت في شارع مستقيم‪ ،‬عن يميني سور عا ٍل‬              ‫في الحبشة‪ ،‬هذا إن كان قد ُدفن أص ًل‪ ،‬إذ يقول‬
 ‫بعض أجزائه من الحديد ولونه أسود‪ ،‬وعن شمالي‬               ‫الأيوبي‪« :‬إن القتلى المدفونين في الوادي ومجرى‬
                                                         ‫السيل ‪-‬وأناف عددهم على ألفين‪ -‬لم ُيدفنوا دفنًا‬
    ‫أبواب المدافن وجدرانها المطلية حديثًا بالأصفر‪.‬‬         ‫أصوليًّا‪ ،‬فإن الأمطار ما لبثت أن كشفت التراب‬
 ‫لمح ُت طفلة قادمة في اتجاهي‪ ،‬تلبس ثو ًبا بنفسجيًّا‬
   ‫له طبقات من الكرانيش‪ ،‬وعلى رأسها أرغفة خبز‬                               ‫عن جثثهم‪ ،‬فأكلت الضواري‬
                                                                             ‫رممهم»(‪ .)3‬في كل الأحوال‪،‬‬
     ‫فوق شبكة من جريد النخل‪ .‬كان مشهدها عن‬
  ‫ُبعد خلا ًبا حتّى إنني تمنيّ ُت لو كانت لد ّي شجاعة‬                          ‫تمني ُت من قلبي ألا يكون‬
  ‫سائحة فألتقط لها صورة‪ .‬توقف صوت شبشبها‬                                     ‫لعنايات علاقة بهذا الرشيد‪.‬‬
                                                                         ‫يبدو أن رشيد باشا الرابع كان‬
    ‫بعد أن عبرتني فالتف ُّت‪ ،‬وجدتها واقفة تنظر إل َّي‬                     ‫شخ ًصا ُمق َّر ًبا من أسرة محمد‬
 ‫والتقت عينانا‪ .‬سألتها إ ْن كانت‬                                             ‫علي؛ ففي خمسينيات القرن‬
‫تعرف العفيفي؟ قالت‪« :‬دا راجل‬                                              ‫التاسع عشر يأتي اسمه ضمن‬
                                                                         ‫المسؤولين عن شق قنوات الر ّي‬
   ‫ولا شارع»؟ خمن ُت أنها أكبر‬                                             ‫وردم المستنقعات واستصلاح‬
‫قلي ًل مما ظنن ُت‪ ،‬مشي ُت خطوتين‬                                             ‫الأراضي البور‪ .‬وفي ‪،١٨٦٨‬‬
                                                                            ‫كان محافظ القاهرة(‪ .)4‬وكان‬
     ‫نحوها وسألتها عن الطريق‬
          ‫للفرن‪ ،‬فوصفته بدقة‪.‬‬

    ‫لم يكن هناك الازدحام الذي‬
    ‫توقعته‪ ،‬وشعر ُت أن العيون‬
   ‫تحدق بي‪ .‬سألتني امرأة عما‬
‫أريد‪ ،‬وبينما أحاول أن أحدد هل‬
    ‫العفيفي شارع أم حارة‪ ،‬قال‬
‫رج ٌل جالس على الأرض يتش ّمس‬
   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122