Page 119 - Nn
P. 119

‫نون النسوة ‪1 1 7‬‬                                                 ‫حصن محم ٌّي بأقفال كبيرة على بوابته‪ .‬من بين‬
                                                                  ‫حديدها يمكن رؤية صبّار وزهور ُمعتنى بها‪.‬‬
                       ‫رددت‪« :‬أيوة لو سمحت»‪.‬‬                    ‫تخيّلت أن أفراد هذه الأسرة المحظوظة يخرجون‬
   ‫ابتسم لي الرجل الجالس بجانبي‪ .‬حييته وسألته‬
    ‫إذا كان يعرف المنطقة؟ «أيوة‪ ،‬أنا عايش هنا من‬                      ‫من مدافنهم للحوش كل فجر ليتسامروا‪.‬‬
‫ييجي أربعين سنة»‪ .‬تحدثنا بعض الوقت وتشجع ُت‬                       ‫انتبه ُت على عراك أطفا ٍل بجانبي‪ ،‬أحدهم يلبس‬
 ‫فأشعلت سيجارة لي وأخرى له‪ .‬سألني عن سبب‬                      ‫(تيشيرت) مكتوب عليه (أديداس)‪ ،‬خمنت أنه غير‬
   ‫مجيئي‪ ،‬قل ُت له أبحث عن شارع أو حارة اسمها‬                   ‫الطفل الذي رأيته بالأمس‪ .‬قل ُت لنفسي «أديداس‬
   ‫العفيفي‪ .‬قال لي‪« :‬العفيفي مش هنا‪ ،‬هي أكيد في‬                ‫في المقابر»‪ ،‬وتذكر ُت فجأة قريبًا لي كان زميلي في‬
    ‫البساتين أو في قرافة المماليك»‪« .‬ألسنا في مقابر‬            ‫الابتدائية وانتهى به الحال عامل بناء في القاهرة‪،‬‬
                                                                ‫هو ِمن أش ّد من عرفتهم تد ُّينًا‪ :‬با ٌّر بأهله‪ ،‬يص ّل‬
                                     ‫البساتين»؟‬                   ‫الصلوات الخمس ويعتكف العشر الأواخر من‬
     ‫لا ب ّد أنني مشي ُت كثي ًرا إ ًذا‪ .‬قرأ ُت مرة أ ّن هذه‬       ‫رمضان‪ ،‬ولا يؤذى أح ًدا‪ ،‬بدا لي دائ ًما نموذ ًجا‬
‫الصحراء كانت مسر ًحا لمسيرات المماليك العسكر ّية‬                 ‫لما يجب أن يكون عليه المسلم الحق‪ .‬رأي ُته يو ًما‬
  ‫ومراسيمهم ومسابقاتهم وبطولاتهم واحتفالاتهم‬                  ‫مهند ًما ووسي ًما كعادته‪ ،‬يلبس (تيشيرت) مكتوب‬
     ‫الدينيّة‪ ،‬وأنهم بنوا مقابرهم هنا بسبب جفاف‬                 ‫عليه بالإنجليز ّية ما تر َج َم ُته «حق الاختيار‪ -‬إنه‬
   ‫التربة‪ .‬يتوه الغريب في هذه الأميال من الأسوار‬                ‫جسدي»‪ .‬الله يعلم من أين حصل عليه‪ ،‬لكن تلك‬
                                                               ‫دعاية من جمعيّة ما في بلد ما عن حق الإجهاض‪.‬‬
         ‫والب ّوابات والشوارع المستقيمة والأشجار‬              ‫تردد ُت‪« :‬هل يجب أن أخبره بذلك‪ ،‬هل من حقه أن‬
       ‫مستديمة ال ُخضرة‪ .‬تتداخل عصور تاريخيّة‬                ‫يعرف»؟ وحسم ُت ذلك السؤال الأخلاق ّي في دقيقة‪،‬‬
‫بولاتها وباشواتها ومساجدها وقصورها ومقامات‬
‫عارفيها‪ .‬لا توجد إشارات لترسيم الحدود في مدينة‬                            ‫فلم أُخبره بالأمر‪ .‬أشعر الآن بالذنب‪.‬‬
                                                                  ‫انتهى التج ّول على كرس ٍّي فيما يشبه مقهى في‬
                                         ‫الموتى‪.‬‬                ‫مدخل حوش‪ ،‬عدة كراسي حمراء من البلاستيك‬
                                                                  ‫تحت شجرة عتيقة‪ .‬شعر ُت بسكينة وكأن هذا‬
      ‫كن ُت أنوي أن أستأنف البحث في اليوم التالي‪،‬‬               ‫المقهى الصغير كان هدفي منذ خرج ُت من البيت‪.‬‬
    ‫وتخيّلت أنني قريبة من مقبرة عنايات‪ .‬كم ُكنت‬                   ‫طلبت كو ًبا من الشاي‪ ،‬ثم غيّرت رأيي فطلبت‬
    ‫ساذجة! لن أجد َمدفن رشيد باشا إلا في صيف‬
‫‪ ،٢٠١٨‬فقط لأكتشف أ َّن المقبرة ليست النهاية‪ .‬يبدو‬                                        ‫زجاجة مياه معدنية‪.‬‬
 ‫أن عنايات إرادتها قو ّية كما قالت بولا؛ كأنها كانت‬          ‫– «مافيش ميّه معدنيّة أجيب لك بيبسي يا أستاذة»؟‬
    ‫تراقب كل شيء‪ ،‬وتريدني أن أصل إليها بطر ٍق‬

                                         ‫أخرى‬

                                                                      ‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ -1‬إلياس الأيوبي‪ .‬تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل من سنة ‪ ١٨٦٣‬إلى سنة ‪ ،١٨٧٩‬جـ‪ ،١‬مؤسسة‬
                                                ‫الهنداوي للتعليم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،٢٠١٣ ،‬ص‪.٥٠٩‬‬
                                                                ‫‪ -2‬إلياس الأيوبي‪ .‬جـ‪ ،١‬ص‪.٥١٢‬‬
                                                                ‫‪ -3‬إلياس الأيوبي‪ .‬جـ‪ ،١‬ص‪.٥١٣‬‬

                   ‫‪ -4‬عبد الرحمن الرافعي‪ .‬عصر إسماعيل‪ ،‬جـ‪ ،٢‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،٤‬ص‪.١١١‬‬
                                                                ‫‪ -5‬إلياس الأيوبي‪ .‬جـ‪ ،١‬ص‪.٥٧٩‬‬
                                                                      ‫‪ -6‬الرافعي‪ .‬جـ‪ ،٢‬ص‪.١٧٧‬‬
                                                                      ‫‪ -7‬الرافعي‪ .‬جـ‪ ،٢‬ص‪.٢٦٤‬‬
   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124