Page 118 - Nn
P. 118

‫العـدد ‪35‬‬   ‫‪116‬‬

                                                        ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

 ‫الأفضل ألا ُيرى‪ ،‬ولكنه ُبرهان على إرادة الحياة في‬         ‫ويدخن‪« :‬تلاقيها من بتوع الجرانين اللي بييجوا‬
   ‫نفس الوقت‪ .‬تتح ّول الدهشة تدريجيًّا إلى أُلفة في‬       ‫يص ّوروا ويمشوا»‪ .‬سألته بأدب وكأني لم أسمعه‬
   ‫المرور على أسماء وغرف نوم ومطابخ وطشوت‬                 ‫إن كان يعرف مدفن رشيد باشا في العفيفي؛ قال‬
    ‫غسيل مفتوحة على الشارع‪ ،‬في أسلاك الكهرباء‬             ‫بثقة‪« :‬ما فيش عفيفي هنا خالص‪ ،‬بس فيه حوش‬

 ‫المشدودة فوق الخط الكوفي وك ّل نفس ذائقة الموت‪.‬‬                            ‫أبو عوف لو عايزاه أوديكي»‪.‬‬
     ‫يتجاور الصبّار والورد الجاف وأكوام القمامة‬           ‫قلت لنفسي فلأتجول بحر ّية إ ًذا‪ ،‬وعندما أسأل في‬
    ‫ورائحة البول والثوم الذي ُيقلى في زيت‪ .‬يجري‬           ‫المرة القادمة سأستخدم كلمة حوش وليس مدفن‪،‬‬
    ‫أطفال حفاة يرتدي أحدهم (تيشيرت) أديداس‪،‬‬               ‫لو لم أصل إلى عنايات اليوم‪ ،‬فسترسل لي إشارة‬

  ‫بوتاجاز مس ّطح فوق مقبرة‪ ،‬منشر غسيل ممدود‬                                                 ‫عندما تريد‪.‬‬
    ‫بين شجرة وشاهد من ال ّرخام‪ ،‬ميادة الحنّاوي‬           ‫مشيت بلا هدف أتفرج على ب ّوابات أحواش‪ ،‬وأقرأ‬

 ‫تغني «أنا بعشقك»‪ .‬ورغم برودة الجو‪ ،‬ع ّدة رجال‬              ‫أسماء عائلات‪ .‬أشاهد الكثير في كل خطوة دون‬
   ‫يدخنون تحت شجرة خلفها بوابة خضراء بديعة‬               ‫أن أقصد التلصص‪ .‬مزاجي غامض‪ .‬لس ُت محبطة‪،‬‬
  ‫في زخرفتها‪ ،‬جميعهم بكلوتات بيضاء ولا ملابس‬             ‫فقد علمتني عنايات منذ سنين ألا شيء عنها يأتي‬

        ‫أخرى كأنهم ُمصطافون على شاطئ خيال ّي‪.‬‬               ‫بسهولة‪ .‬ليس عندي حسرة واضحة على جمال‬
                                                              ‫المقابر القديمة ولا إدانة أخلاقية لإهانة رفات‬
      ‫بدأ عقلي يتج ّول هو الآخر بغير ُهدى‪ ،‬تذكر ُت‬
    ‫أنني أتي ُت إلى مقابر البساتين في ‪ ،١٩٩٥‬لم تكن‬      ‫الموتى‪ .‬لا أذكر َمن ِمن أصدقائي وصف مزاجه م ّرة‬
   ‫جنازة بل حفل زفاف لا أعرف أصحابه‪ ،‬و ُينشد‬                            ‫بـ»حالة تنميل»‪ .‬أعجبني التشبيه‪.‬‬
  ‫فيه الشيخ ياسين التهامي‪ .‬بدت هذه المقابر ليلتها‬
‫أجمل مكان في العالم‪ ،‬نسيم الصيف وأضواء هضبة‬                      ‫حولي أحياء ينامون ويستيقظون ويأكلون‬
 ‫المقطم وغرباء يمدون أياديهم بسجائرهم المحش ّوة‬            ‫ويتعاركون ويتكاثرون؛ مشهد قبيح ومؤ ٍذ‪ ،‬ومن‬
   ‫لك‪ ،‬وب ّحة صوت التهامي وهو يقول «لا خير في‬
  ‫الح ّب إن أبقى على المُه ِج»‪ .‬ليلتها طفو ُت في مكاني‬
   ‫لساعات‪ ،‬بذلك الشعور العجيب بأنك مقطوع من‬
 ‫الماضي ومن واقعك الشخص ّي‪ ،‬لس َت في نزهة ولا‬

       ‫سفر‪ ،‬بل رحلة إسراء ستنتهي بانتهاء الليل‪.‬‬

    ‫في اليوم التالي أنزلني التاكسي عند شارع ‪،١٦‬‬
        ‫مرر ُت بمشترين وبائعين‪ ..‬الأرض وأسوار‬

     ‫الأحواش مفروشة بالبضائع؛ كل خردة تخطر‬
 ‫على البال من أجهزة الفيديو والغسالات إلى أنابيب‬
  ‫البوتاجاز والشبابيك والأس َّرة الخشبية والمعدنيّة‬
  ‫وخزانات الألوميتال والكراسي المكسرة وإطارات‬

    ‫السيّارات والزجاجات الفارغة‪ ،‬التي كانت يو ًما‬
   ‫زجاجات ويسكي وفودكا محترمة‪ .‬إنه سوق لما‬

     ‫يخرج من أحشاء المدينة من مخلّفات‪ .‬انعطف ُت‬
    ‫من شارع جانب ّي إلى آخر إلى آخر‪ ،‬بدأ ُت أسمع‬
     ‫صوت خطواتي ولا أحد حولي‪ ،‬وكأني خرج ُت‬
  ‫إلى ضواحي مدينة الموتى‪ .‬رأي ُت مدفنًا كبي ًرا كأنه‬
   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123