Page 109 - m
P. 109

‫‪107‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في اليمن‬

                                                         ‫إنتصار السري‬

                                                                   ‫(اليمن)‬

                                                            ‫رغيف‬

   ‫عن منديل‪ ،‬لا يجده‪ ،‬يمسح بطرف ثوبه المهترئ‪،‬‬                  ‫بعينين محمرتين‪ ،‬مغرورقتين بالدمع‪ ،‬يتقدم‬
                   ‫يستمر في كلامه‪ ،‬بحياء يقول‪:‬‬               ‫برجلين يصطكان في بعضهما‪ ،‬يتجه نحو عاقل‬

 ‫‪ -‬اعذرني سيدي المبجل‪ ،‬كوني في حضرتك أمسح‬                                                        ‫الحارة‪:‬‬
   ‫مخاطي ودمعي بثوبي‪ ،‬فأترك في نفسك أث ًرا من‬               ‫‪ -‬سيدي العاقل هذا هو أخي‪ ،‬نعم أخي الوحيد‪..‬‬
  ‫تصرف أحمق‪ ،‬مما يثير نفورك منِّي‪ ،‬خاصة وأن‬                ‫لم يكن ذهابي إليه في منزله من أجل إظهار بخله‪،‬‬
   ‫رذاذ المخاط لوث مجلسك الموقر‪ ،‬لكن لا ذنب لي‪،‬‬          ‫كما يقول‪ ،‬كلا‪ ..‬إنما كي أستشعر كرمه ونبله‪ ،‬فأنا‬
                ‫فهو يعود لعدم وجود منديل لد َّي‪.‬‬          ‫شقيقه الوحيد‪ ،‬كنت آمل أن أشد عضدي به‪ ..‬أجل‬
                                                          ‫يا سيدي‪ ،‬حبي له من دفعني كي أدق بابه في ذلك‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬احكم عليَّ بما تراه يرضى أخي‪ ،‬فأنا هنا‬
 ‫بين يديك‪ ،‬فقط اتركني أذهب لأواري جسد طفلتي‬                                                     ‫الصباح‪.‬‬
                                                          ‫يصمت‪ ،‬يحاول أن يخفي حشرجة بكاء في صوته‪،‬‬
        ‫التراب‪ ،‬ثم أعود إليك لأقضي ما حكمت به‪.‬‬
‫يتقدم نحو عاقل الحارة حام ًل جثة طفلته بين يديه‪،‬‬               ‫يخفض عينيه إلى الأسفل‪ ،‬يتغلب على حرجه‪،‬‬
                                                                                          ‫يواصل حديثه‪:‬‬
     ‫دموعه تدثرها‪ ،‬ينظر إليه العاقل بعين الرحمة‪،‬‬
   ‫شقيقه وبكل جفاء يطلب منه أن يعتذر لزوجته‪،‬‬              ‫‪ -‬سيدي‪ ،‬إني قد عجزت عن شراء الحليب والخبز‬
                                                         ‫لطفلتي‪ ،‬هي لم تتمكن من النوم‪ ،‬تعاني الألم الجوع‪،‬‬
       ‫وأن يغادر الحارة هو وزوجته‪ ،‬دون عودة‪.‬‬
‫يغادر مجلس العاقل‪ ،‬منكس ًرا‪ ،‬منحني الظهر‪ ،‬يبحث‬             ‫أمها تلك المرأة المسكينة لم تجد الخبز لتطعمها‪ ،‬أنا‬
‫عن ثمن كفن‪ ،‬لسانه يردد أبيات من قصيدة للشاعر‬               ‫وكما تراني رجل في العقد الرابع‪ ،‬ذو جسد قوي‪،‬‬
                                                         ‫ولقد عملت في العديد من الأعمال الخفيفة والشاقة‪،‬‬
                            ‫«عبد العزيز المقالح»‪:‬‬          ‫لكن دائ ًما كان باب الرزق ضي ًقا‪ ،‬لسبب لا أعرفه‪،‬‬
                                       ‫لم َيم ْت‪..‬‬
                                                                              ‫كان يتم طردي من أي عمل‪.‬‬
                     ‫انظروا كي َف يمشي بأحزا ِن ِه‬       ‫أنا ولوهلة ظننت أن جوع طفلتي لن يكون سببًا في‬
                                    ‫وابتسامتِ ِه‪..‬‬        ‫إحراج أخي‪ ،‬لذلك عزمت أمري بالذهاب إليه‪ ،‬نعم‪،‬‬

             ‫إنه يره ُف السم َع بحثًا عن الجائعي ْن‪..‬‬        ‫إنها حسن نيتي من دفعتني لطرق بابه‪ ،‬لم أكن‬
                      ‫هو ذا عند حش ٍد من الفقرا ِء‬         ‫أقصد إيذاء زوجته بأي ناب أو شتيمة كما ا َّدعت‬
                              ‫يو ِّز ُع أرغف َة الح ِّب‬  ‫هي‪ ،‬كلا بل وبكل انكسار طلبت منها بعض الطحين‬
                           ‫يمس ُح حز َن اليتامى‪..‬‬
                                    ‫سلا ٌم علي ِه‪..‬‬           ‫لصنع رغيف خبز لطفلتي التي تصارع الموت‪،‬‬
                                    ‫فما زا َل حيًّا‬           ‫سيدي إذا لم أطرق باب أخي فباب م ْن يمكنني‬

                    ‫يداع ُب أطفا َل (مقبر ِة البؤ ِس)‬                                            ‫طرقه؟!‬
                        ‫يسأ ُل عن آخ ِر الغائبي ْن‪..‬‬        ‫يشهق ببكاء حار‪ ،‬تختلط دموعه بمخاطه‪ ،‬يبحث‬
   104   105   106   107   108   109   110   111   112   113   114