Page 115 - m
P. 115

‫‪113‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في اليمن‬

  ‫يجلس بين الفينة والأخرى ليلتقط أنفاسه الثقيلة‬       ‫غصن الزيتون واهتزت الأرض من حوله‪ ،‬تمايلت‬
   ‫ويمسح العرق بمنديله‪ ،‬يشير لزميله إلى ساعته‬       ‫وخرجت من باطنها جذور تضخم حجمها وتفرعت‪،‬‬
   ‫فيرد الآخر بإشارة الصبر‪ ،‬يصل التالي للموزع‪،‬‬      ‫انتشر الذعر‪ ،‬وظلت الجذور تتضخم وتحيط المكان‪،‬‬
    ‫رج ٌل عجوز يمشي شبه راك ٍع وساقاه تهتزان‪،‬‬
                                                     ‫أكبرها صار يتلوى ويبعثر الحاضرين‪ ،‬بقي القائد‬
                                ‫ينظر في بطاقته‪:‬‬       ‫واق ًفا بوجو ٍم على المنصة‪ ،‬وحوله الفرقاء ُيج ِّمدهم‬
    ‫‪ -‬يا بهيمة أنت لا تستلم من هنا‪ ،‬لم تمنح هذه‬
                                                         ‫الذهول‪ ،‬توقف الجذر الأضخم فجأة ثم غرس‬
                       ‫المعونة للاجئين من بلدك‪.‬‬     ‫رأسه في الأرض ليطل من تحت المنصة قاذ ًفا القائد‬
‫‪ -‬يابني‪ ..‬لا فرق بينكم فكله عمل خيري‪ ،‬ومؤونتي‬       ‫بعي ًدا‪ ،‬ومخر ًجا قمي ًصا سقط بين يدي العجوز التي‬
                                                     ‫جثت على ركبتيها تتلمسه وتشم الدم المتناثر عليه‪،‬‬
                         ‫نفذت وأحفادي جوعى‪.‬‬          ‫ليرت َّد الدمع إلى وجنتيها بعد أن جففه طول الكذب‪،‬‬
                      ‫يرمي الموزع بطاقته بعي ًدا‪:‬‬    ‫عادت الجذور إلى الأرض و ُحمل القائد بعي ًدا‪ ،‬علت‬
 ‫‪ -‬ألا تفهمون؟ من وقف في الطابور وهو ليس من‬
    ‫البلدان المدونة على اللافتة ‪-‬يشير إليها‪ -‬فعليه‬      ‫أصوات الفرقاء وكل منهم يدفع الآخر لصعود‬
         ‫الخروج منه‪ ،‬لا تؤخرونا (على الفاضي)‪.‬‬         ‫المنصة‪ ،‬اقتربت مديرة مكتب الأخ القائد وانتزعت‬
  ‫يسعد التالي بقرب دوره ويتقدم بحماس‪ ،‬ويتجه‬
  ‫العجوز لأخذ بطاقته والدمع قد سال بين أخاديد‬             ‫الغصن فاهتزت الأساور في ساعدها الممتلئ‪.‬‬

                                 ‫وجهه الكثيرة‪.‬‬                 ‫في جوف الهاوية‬
     ‫يضرب أبو حسين ك ًّفا بكف وهو يقف بجانب‬
  ‫رضوان‪ ،‬أبو حسين رجل ضخم عريض المنكبين‪،‬‬             ‫على صخرة التهمت بشراه ٍة ك ًّما من حرارة شمس‬
 ‫منتصب القامة يوشك أن يغلق باب العقد الخامس‬            ‫يونيو‪ ،‬جلس رضوان وأخرج سيجارة من جيب‬
‫من عمره‪ ،‬يرتدي ثو ًبا مال إلى لون الأرض وسترة‬          ‫قميصه المفقودة معظم أزراره العليا‪ ،‬وضعها في‬
  ‫داكنة يختلط على الناظر تحديد لونها بين الأسود‬
    ‫والرمادي‪ ،‬ويضع على رأسه (شما ًغا) وساعده‬        ‫فمه وأشعلها‪ ،‬استرخى في جلوسه متجاه ًل حرارة‬
                                                     ‫الصخرة وأخذ يسبح في ذكرياته وأصابعه تغوص‬
                                ‫ملفوف بسبحه‪.‬‬
  ‫‪ -‬الله يلعن الساعة التي خرجنا فيها من أرضنا‪..‬‬       ‫في لحيته المهملة منذ أشهر‪ ،‬كانت أصوات صراخ‬
                                                       ‫موزعي المؤن والمستفيدين منها تقطع انسجامه‪،‬‬
   ‫يشير إليه رضوان بأن يجلس وهو يرفع رأسه‬             ‫يلفت انتباهه إليهم ثم تتثاءب حواسه من مشاهد‬
                 ‫ليزفر الدخان من أنفه إلى الأعلى‪.‬‬    ‫ملَّت تكرار التقاطها‪ ،‬هذه بطاقة مؤونته انتهت منذ‬
                                                        ‫يومين ويريد أن يستلم حصته‪ ..‬ويتهمه الموزع‬
        ‫‪ -‬أي أرض يا عمي أبا حسين وأي ساعة؟‬            ‫بأنه مهمل ولا يحترم الإجراءت‪ ،‬وذاك يراه يقف‬
       ‫أهي الأرض التي لم نصنها؟ أم الساعة التي‬      ‫كل مرة في الصف ويستلم المعونة بيسر وسلاسة‪..‬‬

                ‫تناحرنا فيها على الأرض الخراب؟‬              ‫مؤدب في الطابور ولديه بطاقة باس ٍم أصلي‬
      ‫أدر بصرك في هذه المخيمات الممتدة على طول‬         ‫وأخريات باسماء مستعارة فيقف في كل طابور‪،‬‬
    ‫وعرض مدينة القدس‪ ..‬لم يبقى سوى ثلاث أو‬            ‫يتزاحم الناس ويتمايلون ويتدافعون كعبوات الماء‬
‫أربع دول عربية لم تستعر فيها نار الحرب الأهلية‪،‬‬          ‫في سيارة المؤن وهي تسير على الطريق الوعر‪،‬‬
 ‫واللاجئون هنا لا يعلمون حتى ممن هربوا ولا مع‬
                                                          ‫يصرخ ك ٌّل منهم على من خلفه وال َعرق يختلط‬
                       ‫من الحق وعلى من الباطل‪.‬‬                         ‫ببعضه إثر التدافع والتلاصق‪.‬‬
    ‫كل القصة أننا هاربون من الموت المستعجل إلى‬
‫الموت البطيء معلقين بحبل الأمل‪ ،‬ومنتظرين لحظة‬           ‫والموزع يعدل (غترته) من وقت لآخر ويصرخ‬
                                                        ‫فيهم‪ :‬إن وقفتم بنظام (خلصتونا وخلصناكم)‪،‬‬
                ‫الطلق ليقذفنا الحظ بميلاد جديد‪..‬‬      ‫ومساعده السمين فاغ ٌر فاه من شدة الحر‪ ،‬يحمل‬
    ‫تقطع كلام رضوان أصوات عويل وبكاء ترتفع‬              ‫الكراتين ويسلمها لواح ٍد تلو الآخر وهو يلهث‪،‬‬
 ‫من أنحاء مختلفة من المخيمات فينهض‪ ،‬بينما تدب‬
   110   111   112   113   114   115   116   117   118   119   120