Page 120 - m
P. 120

‫العـدد ‪55‬‬                            ‫‪118‬‬

                                                                ‫يوليو ‪٢٠٢3‬‬

‫سهير السمان‬

‫(اليمن)‬

‫سيقان بلقيس‬

    ‫على مكتب خشبي صغير يراجع فواتير البيع‪..‬‬        ‫كالمعتاد أسمع صراخ جارنا العم حسين‪ ،‬وهو ُينزل‬
                            ‫وتهز بالنفي رأسها‪.‬‬     ‫لعناته وشتائمه على ابنته الصغيرة بلقيس‪ ،‬وأعرف‬
                                                    ‫حينها أنه قد أمسك بها متلبسة بالرقص‪ ،‬فينتابني‬
‫يرعبني الوقت الذي يمر دون أن أرى فيه بلقيس‪،‬‬         ‫حزن لا أعرفه إلا عندما لا أراها‪ ،‬فأختار التلصص‬
    ‫فقد كانت هي الكائن الجميل الذي يحتل بيتهم‬      ‫من نافذة وحيدة في منزلنا تطل على حوش منزلهم‪،‬‬
   ‫القديم‪ ،‬بل ويحتل الحي بأكمله‪ ،‬فيصبح صوت‬
   ‫الأغاني المكتوم الذي يتسلل من منزلها‪ ،‬ملاذي‬       ‫لأراقبها تتمايل بقوامها الجميل‪ ،‬وتدور بسيقانها‬
                ‫لأطمئن أنها هنا ما زالت ترقص‪.‬‬         ‫البضة‪ ،‬تطل بوجهها القمحي الشاحب‪ ،‬ونظراتها‬
              ‫سألتها يو ًما حين رأيتها في الدكان‪:‬‬   ‫البشوشة لترفع نحوي ذراعها فر ًحا برؤيتي‪ ،‬وقد‬
                  ‫لماذا يكره العم حسين الرقص؟‬         ‫ارتدت ثوبها الذي تحب أن تلبسه أثناء الرقص‪.‬‬
       ‫‪ -‬يقول إن الرقص عيب وحرام وقلة أدب‪.‬‬
      ‫نظرت في عينيها‪ ،‬ووجها العابس‪ ،‬وقلت لها‬             ‫كنا نسرق وقتًا للعب بعي ًدا عن عيني والدها‪،‬‬
                               ‫بابتسامة واسعة‪:‬‬     ‫نستخدم صفائح البلاستيك أو علب السمن الفارغة‬
                                                   ‫الكبيرة كآلات موسيقية‪ ،‬نضرب عليها حتى ترقص‬
 ‫‪ -‬ما رأيك‪ ..‬نصعد الجبل عند أصدقائنا‪ ،‬ونرجع‬        ‫لنا بلقيس‪ ،‬فتعلو أصواتنا المتنافرة‪ ،‬وتصفيقنا لوقع‬
            ‫البيت قبل أن يعود أبوك من السوق؟‬       ‫أقدامها على الأرض‪ ،‬لم نكن نراها كباقي الفتيات بل‬
            ‫وافقت بعد أن طمأنتها أننا لن نتأخر‪.‬‬     ‫كإحدى شخصيات الحكايات الخيالية‪ ،‬لم تهتم بما‬
                                                   ‫نهتم به نحن‪ ،‬غالبًا ما تحدق بعينيها الرماديتين في‬
 ‫كان يحيط بحينا جبل تنتشر فوقه بيوت خشبية‬
       ‫عشوائية يعيش فيها «الأخدام»‪ ،‬وهم أناس‬          ‫الفراغ لشيء لا نراه‪ ،‬ولكني كنت أتوق لمعرفته‪.‬‬
       ‫بشرتهم سوداء‪ ،‬حياتهم تثير فينا الشغف‬            ‫وصادف وصف أبيها لها ‪-‬وهو ينهرها بعد أن‬
      ‫والنشاط‪ ،‬كانوا أشبه بالغجر‪ ،‬وكان صعود‬        ‫يراها معنا في الشارع‪ ،‬قائلا‪ :‬أدخلي البيت يا جنية‪-‬‬
                                                     ‫ه ًوى في نفسي‪ ،‬فصرت أدعوها بالجنية الجميلة‪..‬‬
  ‫الجبل ومراقبة أولئك الأخدام متعة بالنسبة لنا‪،‬‬       ‫وحين يأتي يوم لا تخرج فيه إلى الشارع‪ ،‬أذهب‬
 ‫تمتعنا مشاهدة مشاحناتهم وأحاديثهم‪ ،‬وغنائهم‬          ‫إلى دكانهم الصغير الذي يشغل جز ًءا صغي ًرا من‬
                                                       ‫مدخل بيتهم‪ ،‬فأجدها تنظف أرضية الدكان‪ ،‬أو‬
                                     ‫ورقصهم‪.‬‬       ‫ترتب البضائع على الرفوف‪ .‬أدخل لأشتري الحلوى‬
‫كانت منازلهم عبارة عن صفائح من المعدن‪ ،‬وقليل‬        ‫التي أحبها حين آخذها من يدها وأهمس في أذنها‪:‬‬
                                                      ‫هل ستخرجين للعب؟ تنظر باتجاه والدها المنكب‬
    ‫منهم يمتلكون منازل مبنية من الطوب القديم‪،‬‬
      ‫وبعضها الآخر من حديد الزنج الذي يصدر‬

 ‫صوتا مع الرياح‪ .‬وهو الصوت الذي حين أسمعه‬
   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124   125