Page 121 - m
P. 121

‫‪119‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في اليمن‬

   ‫وأُخذت لأكون ضمن كتيبة عليها أن تتجه نحو‬            ‫أثناء الليل أتخيل وكأن بيوتهم يسكنها الجان‪.‬‬
‫المدينة القديمة‪ ،‬لتحريرها من الميليشيات‪ ،‬وتسللت‬         ‫أمسكت بلقيس من يدها ونحن نصعد الجبل‪،‬‬

       ‫لي ًل مع سائق شاحنة يسك ُن هو أي ًضا على‬                ‫فكان للشمس رذاذ يتألق على وجهها‪.‬‬
  ‫مشارف حيِّنا القديم في المدينة‪ ،‬كان يعرف أغلب‬     ‫بدأت تركض خلف السحالي الصغيرة التي تخرج‬

          ‫سكان حارتنا‪ ،‬وسألته عن العم حسين‪:‬‬                             ‫من جحورها وهي تسألني‪:‬‬
‫‪ -‬الله يرحمه‪ُ ،‬قتل‪ ..‬وبقيت عائلته في نفس منزلهم‬                                   ‫لماذا يتغير لونها؟‬

                  ‫القديم بعد أن رمموا جز ًءا منه‪.‬‬             ‫تغير لون جلدها حتى لا يراها الأعداء‪.‬‬
   ‫كنت متأك ًدا أنها على قيد الحياة‪ ،‬بعد أن سمعت‬         ‫‪ -‬ماذا لو غيرت جلدي أثناء الرقص حتى لا‬
   ‫بأنباء القذائف التي دمرت العديد من المنازل في‬
 ‫حيِّنا‪ ،‬لن تموت بلقيس أب ًدا‪ ،‬كان كل شيء داخلي‬                     ‫يعرفني أبي‪ ..‬ضحكنا م ًعا عاليًا‪.‬‬
 ‫يحرسها‪ ،‬ستحلق بها ساقاها وتبتعد عن الأرض‬           ‫وصلنا إلى بيوت أصدقائنا‪ ،‬وانضممنا إلى الأولاد‬
    ‫الرمادية‪ ،‬قالتها يو ًما لي‪ :‬حين أرقص لا أشعر‬
                                                           ‫والبنات‪ ،‬لعبنا ورقصنا كثي ًرا وكنت فر ًحا‬
                          ‫بالأرض تحت قدمي‪..‬‬              ‫برؤيتها وهي تحلق بساقيها وسط أغانيهم‪،‬‬
      ‫أنزلني السائق على مشارف الحي مع بداية‬           ‫تكررت زياراتنا إلى هنا‪ ،‬فقد كان عالمنا السري‬
   ‫النهار‪ ،‬ودخلته بلبسي المدني‪ ،‬كي لا أثير انتباه‬    ‫الذي نهرب إليه‪ .‬ولم يدم الأمر طوي ًل فقد تركنا‬
  ‫الجماعات المسلحة المنتشرة في مداخل الحارات‪،‬‬       ‫الحي بعد فترة من الزمن‪ ،‬بسبب نشوب الحرب‪،‬‬
  ‫وقطعت مسافة كبيرة وسط آثار الدمار الذي لم‬           ‫ووصول المعارك إلى المدينة الحالمة‪ ،‬فغادرنا إلى‬
‫ُيبق في تلك الشوارع سوى نباح الكلاب المتشردة‪،‬‬          ‫العاصمة واتسعت المسافة بيني وبين بلقيس‪،‬‬
 ‫والهواء الممتلئ برائحة الموت‪ ،‬وصوت الرصاص‬              ‫وظل خيالها يرافقني طوي ًل‪ ،‬فلم تكبر بلقيس‬
                                                   ‫مثلما كبرت‪ ،‬بل ظلت ساقاها تحلقان مع أفكاري‪،‬‬
                 ‫المتقطع بين الفصائل المتحاربة‪..‬‬   ‫تنتشلني من جمود الوقت‪ ،‬وتبقيني على أمل جديد‬
   ‫سر ُت وأنا أحمل بندقيتي كما لو أنها آلة كمان‪،‬‬
                                                                                        ‫مع الحياة‪.‬‬
     ‫سألهبها برقص بلقيس‪ ،‬ووصلت إلى شارعنا‬                                                       ‫‪...‬‬
   ‫القديم‪ ،‬وأمام باب دكانهم وقفت باتجاه شابة‪،‬‬
  ‫ذات بشرة صفراء‪ ،‬تجلس فوق كرسي متحرك‪،‬‬                     ‫وطال أمد الحرب‪ ،‬وبعد أن أكملت تعليمي‬
    ‫تنفض عن بعض البضائع المتبقية على الأرفف‬        ‫الثانوي‪ ،‬أخذوني إلى جبهة القتال‪ ،‬ولا يزال الناس‬
                                                   ‫ينزحون من مدينتنا القديمة إلى العاصمة‪ ،‬وأنا على‬
                                  ‫غبار المعارك‪..‬‬
                                                                     ‫أمل أن ألقاها يو ًما أمامي هنا‪..‬‬
   116   117   118   119   120   121   122   123   124   125   126