Page 123 - m
P. 123

‫‪121‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في اليمن‬

      ‫يدخل الطبيب إلى غرفة أمي‪ ،‬بعد أن استدعته‬         ‫ألتفت إلى الخلف‪ ،‬أرى والدتي بالقرب من أبي‪ ،‬الذي‬
       ‫الممرضة بشك ٍل طار ٍئ‪ ،‬يقفز قلبي إلى القاع‪،‬‬             ‫لا يزال نائ ًما والمرض اقتات نصف جسده‪.‬‬
       ‫ويرتجف جسدي كله‪ ،‬أرفع يدي إلى السماء‬
       ‫والغصة تخنقني‪ ،‬أسقط على ركبتي وأصرخ‬               ‫أخرج وأوصد الباب خلفي بهدو ٍء‪ ،‬بنبر ٍة موجوع ٍة‬
                                                                                                  ‫أرد‪:‬‬
                                       ‫بالوجع‪.‬‬
      ‫تخرج الممرضة مر ًة أخرى‪ ،‬أرفع رأسي إليها‬                                ‫‪ -‬أشعر بالموت‪ ،‬أنا متألمة‪.‬‬
 ‫وبأعين مملوء ًة بالدموع أقترب منها زاحف ًة‪ ،‬وقبل‬             ‫“أبكي بلا توقف” وتزداد شهقاتي ارتفا ًعا‪.‬‬
‫أن تفتح فمها يخرج الطبيب‪ ،‬وبنبر ٍة هادئ ٍة ممزوج ٍة‬        ‫تبكي هي الأخرى‪ ،‬وبعد لحظا ٍت أسمع صوتها‬

                 ‫بالألم يلقي بخنجره إلى صدري‪:‬‬                                             ‫ينساب ببط ٍء‪:‬‬
                                  ‫‪« -‬البقاء لله»‪.‬‬       ‫‪ -‬هوني عليك‪ ،‬سيكون بخي ٍر‪ ،‬لقد مرضنا جميعنا‪،‬‬

     ‫غيو ٌم دامي ٌة‬                                        ‫والحمد لله نحن بخي ٍر الآن‪ ،‬أدعو الله بأن يزيل‬
                                                                                           ‫المرض عنه‪.‬‬
     ‫صرا ٌخ مفز ٌع‪ ،‬ذاك الذي انبعث من غرفة أبو َّي‬
     ‫فجأ ًة؛ لسعتني القشعريرة وأحسست أن قلبي‬              ‫لطالما كان والدي يعتبرها ابنته‪ ،‬كان يحبها مثلما‬
     ‫يكاد يتوقف‪ .‬أندس في فراشي كل ليل ٍة محم ًل‬          ‫يحبني‪ ،‬وكانت هي لا تقل مشاع ًرا عنه‪ ،‬تراه أباها‬
     ‫بكمي ٍة من التعنيف النفسي‪ ،‬والشعور المتراكم‬
 ‫بالكراهية والوحدة‪ .‬الانكسار يعلو قسمات وجهي‬                              ‫الذي فقدته منذ أن كانت طفل ًة‪.‬‬
    ‫حين أشاهد طف ًل مع أبويه في الحديقة المجاورة‬                                       ‫‪ -‬يا رب‪ ،‬يا رب‪.‬‬
   ‫لمنزلنا يلهوان ويضحكان‪ ،‬أتوارى خلف النافذة‪،‬‬
 ‫أسقط بكلي‪ ،‬أضع يدي على ركبتي وأجهش بالبكاء‬            ‫من بين ضلوعي تسللت نهد ٌة قادر ٌة على إخراج دب‬
‫لأستيقظ بعد فتر ٍة طويل ٍة من غيبوبة النوم وما زلت‬                                  ‫من سباته الشتوي‪.‬‬

                                 ‫قاب ًعا في مكاني‪.‬‬      ‫أغلقت الهاتف بعد أن أخبرتني بأنها ستزورنا غ ًدا‪.‬‬
   ‫أفكر بأنني لن أصبح على شاكلة والدي‪ ،‬شخ ًصا‬          ‫عدت أدراجي إلى غرفة والدي‪ ،‬وضعت رأسي تحت‬

    ‫منبو ًذا‪ ،‬متعجر ًفا‪ .‬بل سأكون أكثر عطا ًء وحبًّا‪.‬‬                        ‫قدميه وغبت في نو ٍم عميق‪.‬‬
  ‫أتضرع إلى الرب كل ليل ٍة أن يقذف في قلب والدي‬           ‫يشتد مرضه فأفزع‪ ،‬يستجدي الهواء في أحايين‬
                                                         ‫كثير ٍة‪ ،‬يوصل أخي قناع الأكسجين إلى فمه وأنفه‬
       ‫الحنان الذي لم أذق شعوره آن هذه اللحظة‪.‬‬            ‫بعد نفاد الأولى‪ ،‬يغمض عينيه ويستسلم‪ ،‬ويعود‬
‫عمري الآن خمسة عشر عا ًما تقريبًا‪ ،‬ما زلت أعيش‬          ‫الدم أدراجه عبر أوردتي إلى جميع أجزاء جسدي‪.‬‬
                                                       ‫أظل أترقب بخو ٍف الأيام والساعات التي تمر مثقل ًة‬
     ‫في منزلنا المكون من طابقين‪ ،‬مع والد َّي اللذين‬     ‫وكئيب ًة‪ ،‬يتماثل والدي للشفاء أوقات ضئيلة‪ ،‬وقبل‬
   ‫لم تتغير طباعهما إلا للأسوأ‪ ،‬فبعد إنجاب أختي‬        ‫أن يستبد بي الفرح‪ ،‬أراه مر ًة أخرى طريح الفراش!‬

                 ‫الصغرى لم يزدد الأمر إلا سو ًءا‪.‬‬              ‫يصيب جسدي الخدر‪ ،‬وتثقل كاهلي الهموم‬
‫ليلة الأحد من كل أسبو ٍع‪ ،‬كالمعتاد يذهب والدي مع‬       ‫والأوجاع‪ ،‬كالمشلولة لا أجد ما أفعله سوى التضرع‬
‫والدتي إلى المقهى الذي يبعد كيلومترا ٍت عن منزلنا؛‬
                                                                                    ‫إلى الله في كل وقت‪.‬‬
                                ‫(هكذا يزعمان!)‪.‬‬        ‫يمر يو ٌم وآخر‪ ،‬يستعيد والدي عافيته شيئًا فشيئًا‪،‬‬
                      ‫قلت وأنا أهم بلبس حذائي‪:‬‬
                     ‫‪ -‬هل يمكنني المجيء معكما؟‬           ‫نرى النور من جدي ٍد يغوص أرجاء المنزل‪ ،‬يقودنا‬
         ‫بصو ٍت واح ٍد ودرجا ٍت متفاوت ٍة في النبرة‪:‬‬       ‫الفرح في رحابه وحين تغمرنا السعادة‪ ،‬تصاب‬

                                          ‫‪ -‬لا‪.‬‬        ‫والدتي بالمرض‪ ،‬حالتها الصحية تزداد حد ًة‪ ،‬يغمرنا‬
              ‫‪ -‬هل ستذهبان لاحتساء “البيرة”؟‬            ‫الحزن والوجع‪ ،‬نراقبها في أل ٍم من الزجاج الموارب‬
                                                             ‫لباب العناية‪ ،‬كل الأجهزة موصل ًة إلى جسدها‬
                                                        ‫المسجى في سرير أبيض‪ ،‬ترقد فيه منذ ثلاثة أيام‪.‬‬
                                                         ‫نتشبث بخيط أم ٍل زائ ٍف‪ ،‬أحدث نفسي باستمرا ٍر‪:‬‬
                                                       ‫«ستجتاز المحنة‪ ،‬ستكون بخير مثل أبي‪ ،‬ستتعافى»‪.‬‬
   118   119   120   121   122   123   124   125   126   127   128