Page 112 - m
P. 112

‫العـدد ‪56‬‬  ‫‪110‬‬

                                                    ‫أغسطس ‪٢٠٢3‬‬

 ‫إلى أ ِّي مدى يمكن للذات وهي تعايش وتعتاش على‬        ‫حقيقي بالحياة إذا افترضنا أن الكتابة «ممارسة‬
   ‫الواقع أن تنجز تخييلها الذاتي المتعلق بمسارها‬        ‫ذاتية خالصة‪ ،‬والنص ن ًّصا شخصيًّا ح ًّرا ليس‬
                                                       ‫ملز ًما بشيء واقع خارج ذات كاتبه‪ ،‬ينطلق من‬
 ‫الحياتي والوجودي‪ ،‬في إطار ذاتية المسار التخييلي‬    ‫تجربة واقعية معيشة‪ ،‬أو يفترض أنها كذلك»‪ ،‬فهي‬
       ‫الموازي للواقع؟»‪( .‬التخييل الذاتي المشاحنة‬   ‫قادرة على صنع تعاقد ضمني بين الكاتب والمتلقي‬
                 ‫المعرفية‪ ،‬عبد الحفيظ بن جلولي)‬
       ‫تبدأ نازك مقدمتها بإعلان عن تواريخ كتابة‬                ‫على خلق هوية تحظى بمصداقية عالية‪.‬‬
                                                     ‫«بغية ترميم الصدوع وإزالة الخدوش عن صفحة‬
 ‫القصائد في الديوان (الأعمال الكاملة) المجلد الأول‬   ‫اللاشعور‪ ،‬ورص ًفا متأنيًا لأقصر المسافات المؤدية‬
      ‫(مطولة مأساة الحياة) وبعد أن تصفها بأنها‬
                                                         ‫إلى الهوية المغيبة تحت طبقات رسوبية كثيفة‬
 ‫ترضي ذوقها بعد مرور هذه السنوات تبدا بشرح‬              ‫لحياة لم تحفل كثي ًرا بالذات وأشواقها‪ .‬ذلك ما‬
 ‫الظروف النفسية والفكرية التي أحاطت بها خلال‬             ‫يفسر إلى حد كبير في اعتقادنا‪ ،‬ما في التخييل‬

                 ‫عشرين عا ًما من ‪.1965 -1945‬‬              ‫الذاتي من قلة حفاية بإبراز واقعية الأحداث‬
   ‫ترسم نازك الملائكة لنفسها شك ًل نفسيًّا محد ًدا‬      ‫المسرودة‪ ،‬أو تخييليتها‪ ،‬إلا بالقدر الذي يعطي‬
  ‫ارتبط إلى حد بعيد بظهور الرومانسية وميلها إلى‬       ‫للذاكرة واللاشعور ما يكفي من الدافعية للغوص‬
    ‫الحزن‪ ،‬وهو ما تبنته الى حد بعيد عبر شعرها‪،‬‬       ‫تحت الكثافة الحسية‪ ،‬والتملص من سلطان العقل‬
                                                      ‫وصرامته في ممارسة شخصية للتحليل النفسي‬
        ‫وهنا تضع للقارئ فيه (ميثا ًقا) واض ًحا في‬
   ‫تصريحها‪« :‬وكنت إذ ذاك أُكثر من قراءة الشعر‬                          ‫وأبعاده الاستبطانية العميقة‪”.‬‬
                                                        ‫وفي المقدمات حاولت نازك صناعة شخصيتين‬
      ‫الإنكليزي‪ ،‬فأعجبت بالمطولات الشعرية التي‬      ‫مختلفتين‪ :‬الأولى صاحبة مزاج سوداوي‪ ،‬غارق في‬
    ‫نظمها الشعراء وأحببت أن يكون لنا في الوطن‬       ‫التشاؤم والحزن‪ ،‬موقنة بلا جدوى الحياة‪ ،‬عاطفية‬
‫العربي مطولات مثلهم‪ .‬وسرعان ما بدأت قصيدتي‬          ‫المذهب رومانسية الطريقة‪ ،‬فيما كانت الثانية‪ ،‬امرأة‬
      ‫وسميتها مأساة الحياة‪ ،‬وهو عنوان يدل على‬         ‫حرة قادرة على وضع تصورها الخاص والتعبير‬
     ‫تشاؤمي المطلق وشعوري بأن الحياة كلها ألم‬          ‫عنه‪ ،‬مثقفة واعية جريئة النقد لنفسها ولغيرها‪،‬‬
‫وإبهام وتعقيد‪ .‬وقد اتخذت للقصيدة شعا ًرا يكشف‬        ‫الشخصية الأولى تجعلها مرتبطة بحياتها وطريقة‬
      ‫عن فلسفتي فيها هو هذه الكلمات للفيلسوف‬             ‫نظرتها للحياة‪ ،‬فيما تأخذ الثانية مجال الأدب‬
 ‫الألماني شوبنهاور‪( :‬لست أدري لماذا نرفع الستار‬         ‫والكتابة والفكر والذات «لا يمكنها أن تستسلم‬
    ‫عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت؟‬
                                                                                      ‫للواقع‪ ،‬كنمط‬
                                                                                    ‫وحيد يستهوي‬

                                                                                         ‫فقط الذين‬
                                                                                      ‫ارتأوا هام ًشا‬
                                                                                    ‫واح ًدا لا يتع َّدى‬

                                                                                          ‫بيولوجية‬
                                                                                          ‫الكينونة‪،‬‬
                                                                                         ‫وهنا تأتي‬
                                                                                      ‫تجربة سيرج‬
                                                                                      ‫دوبروفسكي‬
                                                                                          ‫في تخليق‬
                                                                                    ‫مفهوم (التخييل‬
                                                                                       ‫الذاتي)‪ ،‬لكن‬
   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117