Page 169 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 169

‫حول العالم ‪1 6 9‬‬

 ‫هذه الصيغة تمثل في الواقع‬        ‫وجود زبائن أو عملاء؛ إنها‬       ‫على المستوى العالمي‪ ،‬وهذا‬
    ‫توصي ًفا للكارثة‪ :‬ذلك أن‬     ‫مدينة ضخمة‪ ،‬جميلة‪ ،‬لكنها‬          ‫شكل جديد مما كان ُيسمى‬
                                ‫تبدو كئيبة لا ترى فيها سوى‬
 ‫الرغبة في الملء الكثيف لكل‬                                           ‫فيما مضى (الشيوعية)‪.‬‬
   ‫لحظة من اللحظات تنتهي‬             ‫شخص أو مجموعة من‬                ‫ولو لم نوجه جهودنا في‬
    ‫برتابة خانقة‪ .‬لكن أوقات‬     ‫الأشخاص بمفردهم‪ ،‬وسيارة‬
     ‫الفراغ المميتة‪ -‬لحظات‬                                             ‫هذا الاتجاه؛ فقد تكون‬
                                  ‫هنا وأخرى هناك‪ ..‬كل هذا‬          ‫مدينة ووهان اليوم صورة‬
  ‫الانسحاب‪ ،‬أو ما كان يطلق‬       ‫يقدم لنا صورة عما قد يبدو‬           ‫نموذجية لما س َي ُؤو ُل إليه‬
     ‫عليه المتصوفة القدامى‬                                         ‫مستقبلنا‪ .‬وقد سبق للعديد‬
                                   ‫عليه عالم غير استهلاكي‪.‬‬         ‫من «الديستوبيات» الكارثية‬
  ‫«السكينة» ‪Gelassenheit‬‬            ‫يذكرني الجمال الكئيب‬           ‫(أدبيات المدينة الفاسدة أو‬
  ‫(أو الطمأنينة)‪ -‬تعتبر أم ًرا‬    ‫للطرق الفارغة في شنغهاي‬        ‫المستقبل المرير)‪ ،‬أن صورت‬
‫حاس ًما لإعادة تجديد خبراتنا‬       ‫أو الفارغة في هونج كونج‬       ‫بالفعل عال ًما مشاب ًها‪ :‬فالأفراد‬
  ‫في الحياة‪ .‬وربما يمكن أن‬        ‫ببعض الأفلام القديمة التي‬      ‫الآن يبقون في المنزل لمعظم‬
 ‫تكون إحدى الآثار والعواقب‬           ‫تتحدث عن ما بعد نهاية‬        ‫الوقت‪ ،‬ويعملون على أجهزة‬
                                 ‫العالم‪ ،‬مثل فيلم الرومانسية‬       ‫الكمبيوتر‪ ،‬ويتواصلون من‬
      ‫غير المقصودة للحجر‬
‫الصحي بسبب كورونا‪ ،‬داف ًعا‬             ‫والخيال العلمي «على‬            ‫خلال مؤتمرات الفيديو‪،‬‬
                                 ‫الشاطئ» ‪ ،1959‬الذي تظهر‬         ‫ويمارسون الرياضة على آلة‬
   ‫للبعض لأن يستثمر وقته‬           ‫فيه مدينة جميلة غاب عنها‬
  ‫الضائع للتحرر من النشاط‬       ‫معظم سكانها‪ ..‬لم َي ْعد العالم‬      ‫في زاوية مكتبهم المنزلي‪،‬‬
  ‫المحموم والمكثف‪ ،‬والنظر‬                                        ‫ويستمنون أحيا ًنا أمام شاشة‬
  ‫في مدى معقولية أوضاعه‬              ‫بعد في متناولنا‪ ،‬لم َي ْعد‬
                                ‫ينتظرنا‪ ،‬يبحث عنا ويعمل من‬          ‫تعرض لهم أفلا ًما جنسية‬
        ‫ومدى لا معقوليتها‪.‬‬                                              ‫ومقاطع إباحية عنيفة‪،‬‬
   ‫إنني مدرك تما ًما الخطر‬        ‫أجلنا‪ .‬حتى الأقنعة البيضاء‬
  ‫الذي أواجهه بنشر أفكاري‬          ‫التي يرتديها عدد قليل من‬        ‫ويحصلون على الطعام عن‬
‫هذه علانية‪ ،‬كما أنني لا أقوم‬      ‫الأشخاص المتجولين فإنها‬        ‫طريق خدمة «الدليفرى»‪ ،‬ولم‬
‫هنا بإسقاط رؤية نظرية على‬           ‫تخفي شخصيتهم وترفع‬           ‫يعودوا يرون الآخرين بشكل‬
‫ضحايا المعاناة وأنا في مكان‬        ‫عنهم الحرج عند التواصل‬
    ‫بعيد عنهم‪ ،‬في مكان آمن‬                                                         ‫شخصي‪.‬‬
‫ومحمي بشكل جيد‪ ،‬وبالتالي‬              ‫الاجتماعي فيما بينهم‪.‬‬          ‫ومع ذلك‪ ،‬هناك منظور‬
                                  ‫يتذكر العديد منّا الخاتمة‬           ‫تحرري تبدو معالمه في‬
      ‫أُضفي شرعي ًة بطريقة‬        ‫الشهيرة للبيان الذي أطلقه‬         ‫الأفق‪ ،‬في ظل هذا الوضع‬
  ‫ساخرة على معاناتهم‪ ..‬لا‪،‬‬                                         ‫الضبابي الكابوسي‪ .‬ويجب‬
   ‫ليس هذا صحي ًحا‪ .‬ح ًّقا إنه‬      ‫الطلاب في فرنسا و ُنشر‬            ‫أن أعترف أنه خلال هذه‬
   ‫عندما يتجول مواطن ملثم‬        ‫في عام ‪( :1966‬العيش دون‬          ‫الأيام الأخيرة‪ ،‬وجدت نفسي‬
 ‫في ووهان سعيًا إلى التزود‬                                          ‫أحلم بزيارة مدينة ووهان‬
    ‫بالطعام أو الحصول على‬           ‫وقت فراغ‪ ،‬والتمتع دون‬
   ‫الدواء‪ ،‬فمن الواضح أنه لا‬      ‫عوائق)‪ .‬وإذا كنّا تعلمنا من‬         ‫الجميلة؛ ففيها الشوارع‬
                                 ‫فرويد ولاكان شيئًا‪ ،‬فهو أن‬          ‫المهجورة في تلك المدينة‬
    ‫توجد في ذهنه أية أفكار‬        ‫الصيغة المتمثلة في الحالة‬        ‫الكبيرة‪ ،‬والمراكز الحضرية‬
‫تناهض الاستهلاك‪ ،‬ما يشغله‬        ‫المطلقة لأمر الأنا العليا‪ ،‬لأن‬       ‫التي كانت مزدحمة عادة‬
                                 ‫الأنا العليا كما أوضح لاكان‬         ‫والتي باتت الآن مثل مدن‬
     ‫فقط هو الذعر والخوف‪.‬‬          ‫جي ًدا تعد في الأساس أم ًرا‬      ‫تسكنها الأشباح‪ ،‬والمتاجر‬
 ‫لكني أزعم أنه حتى الأحداث‬       ‫إيجابيًّا للمتعة‪ ،‬وليست فع ًل‬     ‫ذات الأبواب المفتوحة دون‬
  ‫المروعة يمكن أن تكون لها‬
                                    ‫سلبيًّا للحظر والمنع‪ -‬إن‬
   164   165   166   167   168   169   170   171   172   173   174