Page 72 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 72

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪72‬‬

                                                     ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫منى الشيمي‬

‫ليل الجبابين‬

       ‫يقبع ضريح الشيخ يواسي الزائرين ويؤ ِنس‬            ‫ما إن فرغ البيت من المعزيات حتى خرجت‪.‬‬

                                         ‫الموتى‪.‬‬        ‫آثار أعمدة صوان العزاء تصنع حف ًرا صغيرة في‬
                                                      ‫الرحبة التي تتوسط البيوت‪ .‬الدكة التي كان يجلس‬
‫قدماها تنهبان المسافة‪ ،‬وبكاؤها يشت ُّد وجيبه‪ .‬ﻻ‬       ‫عليها عارية من الكليم الصوف المعتاد‪ ،‬الأرض بلا‬
‫شيء تب َّقى لها بعد غيابه‪ ،‬لم تنجب الولد وﻻ البنت!‬
                                                        ‫أثر لماء مرشوش عليها‪ .‬حتى الحمام الذي اعتاد‬
‫ألوان الشاهد ما زالت لينة‪ ،‬هل تصدق أن السفينة‬          ‫الوقوف على الإفريز توقف عن الهديل‪ .‬بدا المكان‬

      ‫جاءت وحملته كما قال التربي؟ أم تراه ينتظر‬                                         ‫بدونه شاحبًا!‬
                                                      ‫كان الوقت عص ًرا‪ ،‬الشمس ما زالت حامية‪ ،‬تلهب‬
                           ‫حضورها ليرحلا م ًعا؟‬      ‫أديم الأرض وتغوص في طياتها‪ ،‬والجاموس يحتمي‬
    ‫«لو سبقتيني يا عاشه هانزل لك القبر وابيت‬           ‫تحت عرائشه وشواشي النخل ساكنة في الأعالي‪.‬‬

             ‫معاك‪ ،‬لو سبقتك يا بت هتعملي ايه؟»‪.‬‬            ‫مات‪ ،‬ما زالت ﻻ تص ِّدق‪ ،‬استيقظت صبا ًحا‬
                                                           ‫فوجدته على رقدته التي استهل بها نومه أول‬
   ‫تجلس وتنبش بيديها‪« :‬يا عود طري واتلوى‪..‬‬            ‫الليل‪ ،‬يقرفص قدميه ويولي شطر النافذة‪ ،‬يستقبل‬
                                                      ‫هبات الهواء‪ ،‬هكذا اعتاد في ليالي الصيف‪ ،‬لكنه لم‬
 ‫ميِّل ومال ع الأرض‪ ..‬امبارح كان وسطنا‪ ..‬والليلة‬     ‫يستيقظ ليلح َق بالفجر كما كان يفعل‪ ،‬لم تد ّق قدماه‬
 ‫تحت الأرض»‪ .‬الشمس تميل مل ِّوحة‪ ،‬والليل آ ٍت من‬          ‫صالة البيت‪ ،‬الوحيدة المبلَّطة‪ .‬لم يو ِّجه مؤشر‬
                                                     ‫الراديو في طاقة السقيفة ليصدح القرآن‪ .‬ربتت على‬
                        ‫بعيد يجرجر ظلامه خلفه‪:‬‬       ‫ظهره في البداية‪ ،‬ثم نادت بصوت خفيض‪ .‬عندما لم‬
                                                      ‫يرد عدلت جسمه بيديها فلان لها وانقلب‪ .‬صرخت‪،‬‬
   ‫«لو سبقتني يا فراج هاشتكيك لشيخ الجامع»‪.‬‬            ‫كان وجهه أصفر كالكركم وشفته السفلى مته ِّدلة‬
                                                         ‫ورغا ٍو تسيل من زاوية فمه‪ ،‬بعزم حسها قالت‪:‬‬
   ‫عشرون عا ًما منذ تز َّوجا‪ .‬بعد رجوعه‪ ،‬يبقيان‬
  ‫م ًعا‪ ،‬يدخل رتاج الباب في مغلاقه كل ليلة‪ ،‬أنفاسه‬                                ‫«يا خراب البيت»‪.‬‬
   ‫تشعرها بالطمأنينة‪ ،‬وطلاوتها تشبعه وتكفيه‪ .‬لم‬        ‫الطريق فار ًغا ما زال‪ ،‬وق ُّش القصب يحتمي من‬
                                                         ‫أقدام المارة بجوانب الطريق على جانبي الترعة‪.‬‬
   ‫يستجب لنصيحة أمه وهي تدفعه للزواج بغيرها‪:‬‬         ‫سيعود الرجال بعد قليل يسوقون حيواناتهم باتجاه‬

  ‫«وﻻدك هيموتوا في ضهرك يا ولدي»‪ .‬لم يفهم ما‬                 ‫الأحواش‪ ،‬وسيفرغ الخلاء لعفاريت الظلام!‬
                                                         ‫وصلت إلى تل الميتين‪ .‬بانت شجرة النبق في‬
                               ‫قاله دكتور النجع‪:‬‬     ‫أعلى مكان‪ ،‬ندفها الأصفر يفترش الأرض‪ ،‬يدحرجه‬
                                                        ‫الصهد ليستقر بين الشواهد‪ .‬وفي الجهة اليمنى‪،‬‬
 ‫«اتنوا الاتنين ُسلام‪ ..‬لو أي حد فيكم اتج ِّوز غير‬
                                ‫التاني هيخلف!»‪.‬‬

  ‫ما زالت تنبش‪َ « :‬ح ّر الجبابين غير ال َحر‪ ،‬وليلها‬
‫غير الليل يا عاشه»‪ .‬ع َوت ريح من بعيد‪ ،‬وتراقصت‬
 ‫الأشباح البيضاء في الظلمة‪ .‬كانت كدخان البخور‪،‬‬

       ‫تتجمع‪ ،‬وتقترب من وجهها‪ ،‬تبتسم بألفة‪ ،‬ثم‬

‫تتلاشى‪ .‬دارت بعينيها بين الشواهد‪ ،‬فزعت ووقفت‬

  ‫مسرعة‪ ،‬تمسك بطرف جلبابها‪ ،‬وجرت تبحث عن‬

                      ‫المد ِّق المفضي إلى الطريق!‬
   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77