Page 73 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 73
73 إبداع ومبدعون
قصــة
ناصر الحلواني
قشرة الروح
أخرى ،تسكن جدران أحياء آخرين ،لتخفف عنهم لم أكن حتَّى أتساءل كيف تتكاثر هذه الفراشات،
متاعب الحياة ،حين يشعرون بالأرواح تحوم
كيف تحتفظ بحياتها ،فهناك نوع من المعرفة،
حولهم .إنها رعاية الله ،فكيف لا تطيب لها نفوسهم،
وكيف لا يأنسون لها ،ويدعونها لحريتها. بسيط ،يكاد يشبه الإيمان ،أو اليقين الح ِّسي في
أن هناك الكثير من الفراشات الصغيرة من حولي،
إنها بالتأكيد تعلم ،لا ب َّد أن الله قد علمها كيف
تمارس حياتها الروحية تلك ،حت ًما هي تفعل شيئًا هكذا.
أكثر من مجرد الرفرفة والالتصاق بالجدران ،ربما لا أزيد عن أ ِّني أراها ،وأدع لها ك ِّفي ،أحيا ًنا ،لتقف
عليها قلي ًل ،لتتمتَّع ببعض السخونة البشرية ،بعي ًدا
توحي إلينا بما لا نشعر به سوى بنفوسنا في
لحظات خلاصها من اليومي والمباشر ،ربما هي عن الجدران الرطبة ،الباردة ،ذات اللون الواحد.
تصلي لأجلنا. لم يتجاوز الأمر ما يشبه الاعتقاد بأن الله
رغبت أحيا ًنا لو استطعت أن أملِّس على جسد
إحداها حين تقبع في كفي ،لكنها لا تهدأ ،كأنها موجود ،وكذا الأرواح الهائمة بين الدنيا والآخرة،
تحس الدم المتدفق داخلي ،تنبهها حرارته التي لا
وتلك الفراشات الذهبية الضئيلة ،التي لا تأكل أو
تحسها على الجدران الص َّماء. تشرب أو تفعل شيئًا سوى الرفرفة قلي ًل ،والسكون
كنت أخشى أن يدهسها طرف إصبعي الدنيوي،
في معظم الأحيان.
أو يمسها بطريقة لا تناسب وجودها الروحي،
ورقتها النورانية ،حتما هي نور بالداخل ،أما ذلكما كنت أخشى عليها من رذاذ الموت الذي أطارد به
الجناحان ،وذلك اللون الذهبي المكتوم ،كلون حبَّة
الحشرات الأخرى ،فكنت أتحمل الطنين السخيف
قمح طازجة ،فليس سوى القشرة الخفيفة التي
تسمح لنا برؤية ذلك الكائ ِن المتعالي في صمته لذباب النهار ،وبعوض الليل ،من أجلها ،تلك
وخ َّفته ،والتي تتيح لنا بعض التأمل في قيمة هذه
الضآلة المحلِّقة في الفراغات المحيطة بنا ،ودلالاتها الفراشات الحبيبة ،تلك الأرواح الحارسة ،الآتية من
عالم الموتى لترعانا نحن الأحياء.
هكذا كانت تقول لي جدتي وأنا بعد صغير ،ربما
تجيء لتدلَّنا على الطريق إلى نهايتنا المحتومة ،أن
نتخلَّى عن أبداننا البشرية الثقيلة ،وندع لأرواحنا أن
تتلبَّس تلك الأجسام الرهيفة ،أن نستحيل فراشات