Page 77 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 77

‫‪77‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

 ‫الج َّدة‪ ،‬التي لم تحب أح ًدا مثلما أحبَّتك‪ ،‬ألقت بك في‬    ‫الشارب النحيف الذي أكد أن حالتي النفسية هي‬
  ‫المقبرة وتركتك وحي ًدا‪ .‬قلت ليكن‪ :‬عددتموني بين‬
 ‫الأموات‪ ،‬فلكم ما تريدون‪ ،‬سأخرج من القرية التي‬           ‫التي تجعله يغيِّر في تقرير التحقيق لكيلا تثبت عل َّي‬
                                                         ‫تهمة القتل الخطأ‪ .‬وحين قلت بصوت واهن إنني لم‬
 ‫ظلمني أهلها‪ ،‬على الأقل‪ ،‬فبخروجي منها لن أضطر‬
                                                           ‫أقتل أح ًدا‪ ،‬أفسحوا المجال لامرأتين ورجل لم أر‬
    ‫أن أعيش مهد ًدا بالقتل ثمنًا لثأر قديم أو آخر لم‬      ‫أح ًدا منهم من قبل‪ .‬قالوا إن الحل الوحيد للخروج‬
                                 ‫يحن أوانه بعد»‪.‬‬           ‫من هذه الورطة هي العودة من حيث جئت‪ .‬قالت‬

    ‫وجدت جلبابك الرماد َّي في الجوار‪ ،‬موضو ًعا‬           ‫الساقية إنني محظوظ لأنني أترك الحفل في سابقة‬
     ‫على مصطبة حجرية خارج القبر مباشرة‪ ،‬وقد‬
                                                                                    ‫هي الأولى من نوعها‪.‬‬
       ‫ُطوي بعناية‪ ،‬فارتديته وخرجت‪ .‬رأيت شب ًحا‬
   ‫فح َّدقت فيه‪ .‬لم يكن يعنيك من يكون بعدما أمات‬          ‫تتابعت الأمور كلها في عربة القطار‪ ،‬بينما كنت‬
    ‫القبر خوفك للأبد‪ .‬اقترب منك‪ ،‬فبدا كلبًا أو ذئبًا‬
  ‫صغي ًرا‪ ،‬أو مخلو ًقا هجينًا بين الكلب والذئب‪ .‬حين‬         ‫أتن َّقل مدفو ًعا أو مجذو ًبا بواسطة حارس ضخم‬
  ‫تأ َّملته أحسست على نحو غامض بأنه مثلك طريد‬                ‫يرتدي ز ًّيا عسكر ًّيا كاكيًّا‪ ،‬ويلقي بي من غرفة‬
 ‫من أهله‪ .‬اقترب منك وراح يقفز حولك‪ .‬قلت له‪ :‬كن‬                ‫التطبيب إلى غرفة التحقيق ومنها إلى سواها‪.‬‬
‫صديقي‪ ،‬سنبدأ رحل ًة طويلة‪ .‬فهز ذيله حبو ًرا‪ ،‬وراح‬
                                                         ‫انتهى الأمر بأن سلموني لقارئة القطار‪ .‬ألزموها‬
                            ‫يقفز في مكا ِنه بمرح‪.‬‬
                                                               ‫بتح ُّمل مسؤولية عدم عودتي للحفل‪ .‬وكانوا‬
  ‫ولسبب غامض حين بدأت أولى خطواتك رحت‬                     ‫يص ِّوبون نظرات حادة ومه ِّددة وهم يؤكدون أنهم‬

‫تعرج في مشيتك‪ ،‬كما لو أن ساقيك قد أصيبتا بداء‬                ‫لن ُيدخلوني مرة أخرى إلى الحفل مهما حدث‪.‬‬
                                                                  ‫من جانبها‪ ،‬ومن موضعها المألوف في‬
   ‫شلل الأطفال‪ .‬لم يكن هناك سبب لذلك‪ ،‬ولم تكن‬
                                                            ‫مقصورتها‪ ،‬واجهت زرقاء الأمر بثبات‪ .‬لم تغيِّر‬
  ‫ساقاك معطوبتين‪ ،‬لكنك عرجت‪ ،‬وبدا الذئب راغبًا‬              ‫من انفعالاتها‪ ،‬فقط توقفت عن القراءة‪ .‬وانتظرت‬
‫في التش ُّبه بك‪ ،‬إذ أخذ يعرج بجوارك‪ ،‬وهكذا أدرتما‬
‫ظهريكما للقرية الظالم أهلها‪ ،‬وفي ظلام الليل‪ ،‬الذي‬        ‫حتى رحلوا جمي ًعا‪ ،‬وطلبت مني في هدوء أن أتم َّدد‬
                                                             ‫بجوارها على الأريكة المقابلة‪ .‬وكالعادة امتثل ُت‬
 ‫ب َّدد من عتمته ضوء القمر‪ ،‬بدوتما شبحين عجيبين‬
     ‫يسيران في قلب الليل‪ ،‬بخطوات رتيبة عرجاء‪،‬‬              ‫لها‪ .‬لم أشرح لها شيئًا ولم تطلب مني ذلك‪ .‬قالت‬

  ‫فغدوتما كقصيدة مقفاة قافيتها مكسورة بالعرج‪.‬‬              ‫لي إنني سأحصل على ما أريد‪« .‬تريد ذاكرتك؟»‪.‬‬
‫ف َّكرت أن تقصد أقرب قري ٍة تجاور النهر‪ ،‬قلت إنك‬
                                                                           ‫حسنًا‪ .‬اهدأ الآن وأنصت جي ًدا‪:‬‬
‫ستترك الجنوب كله وترتحل إلى المدينة الكبيرة في‬                        ‫«كان ياما كان‪ ،‬كنت وكان ما كان‪:‬‬

   ‫الشمال‪ .‬وعلى سبيل تزجية الوقت ح َّدثت الذئب‪،‬‬          ‫حينما استيقظ َت في قبرك لم تكن ميتًا‪ .‬إذ دخلته‬
‫قلت‪ :‬أعلم أن جدتي هي التي أدخلتني القبر‪ .‬وأعرف‬           ‫حيًّا‪ ،‬وحين فتح َت عينيك‪ ،‬بعد عدة أيام قضيتها في‬
                                                          ‫القبر‪ ،‬لم تتمكن من أن تبصر شيئًا في تلك العتمة‬
‫أنها ما قصدت إلا الخير وعلاجي من دائي ال ُعضال‪.‬‬
    ‫لكن غفوها عني هو ما آذاني‪ ،‬فكأنها استسلمت‬                 ‫المقبِضة‪ .‬تناهت لأنفك روائح التراب والعطن‪،‬‬
     ‫لموتي‪ .‬ولهذا فلن أعاود رؤية « ِستِّي» ولا أحد‬
                                                            ‫والموت‪ .‬ورغم كل ذلك فلم يساورك أي شعور‬
     ‫من العائلة‪ ،‬فهذا فراق‪ .‬وإذ ص َّرحت بقولك ذاك‬          ‫بالخوف‪ .‬وقد أدركت بعد نحو ساع ٍة قضيتها في‬
 ‫للذئب الصديق فقد أوليت ظهرك حرفيًّا لكل ذكرى‬
                                                              ‫مكانك بلا حركة أن ج َّدتك قد حققت مقصدها‬
     ‫وشخص عرفته في القرية‪ ،‬وعلى سبيل تزجية‬                ‫وغايتها‪ ،‬إذ ُشفيت من مرضك العضال‪ .‬عدت حيًّا‪،‬‬

                                                                             ‫ولم يمت منك سوى الخوف‪.‬‬

                                                          ‫وحين استوعب َت ما جرى‪ ،‬شعرت بالحزن‪ ،‬لأن‬
   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82