Page 79 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 79

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫به من آثار الحمى والمرض وغبار القبر فقط‪ ،‬بل‬            ‫بريطانيًّا لسنوات في العلاج والجراحة‪ .‬كان قد‬
  ‫وكل ذكرياتك مع المرض ومع الجدة التي أحببتها‬               ‫استمد شهرته من تدربه على طبيب بريطاني‬
‫ربما أكثر من أمك وأبيك‪ .‬ومن دائرة الثأر والانتقام‬
                                                         ‫استوطن مركز مدينة الأقصر القريبة‪ ،‬حين رأى‬
    ‫المعلقة في رقبتك التي تجعل منك قات ًل محتم ًل‬         ‫فيها سح ًرا لا يوجد سوى في الأساطير؛ فق َّرر‬
      ‫وقتي ًل من بعد ذلك في دائرة لا خلاص منها‪.‬‬             ‫أن يعيش بقية حياته هناك ويعالج أهل القرى‬
                                                         ‫المجاورة‪ .‬قال المم ِّرض إن ما تعاني منه مرض‬
 ‫وحين شرع القارب في التحرك كان الذيب يقف‬                  ‫نادر يحتاج لإزالة الأجزاء المتخثِّرة‪ .‬وأن بترها‬
    ‫راف ًعا رأسه يرقبك من بعيد‪ ،‬وقد انتصبت أذناه‬        ‫قد يوقف جنون الجسد الذي يريد أن يأكل نفسه‪.‬‬
    ‫لأقصى حد‪ ،‬من دون أن يتح َّرك‪ ،‬وكأ َّنما يو ِّدعك‬   ‫وقد تم َّكن من إقناع الطبيب البريطاني أن يستقبلك‬
    ‫رغم قصر العلاقة التي جمعت بينكما‪ .‬ولكنه لم‬          ‫في منزله بالأقصر‪ ،‬وبمبضعه أجرى فت ًحا ما بين‬
                                                      ‫الخصر وأعلى المثانة‪ ،‬وأزال وبتر الأجزاء المتخثرة‬
 ‫يبتعد عنك إذ إنك لمحته على الضفة الأخرى‪ ،‬يسير‬           ‫من جسدك‪ ،‬رغم أن ذلك تسبب في بقائك طريح‬
‫أو يهرول‪ ،‬من دون أن يتناسى عرج قدمه المصطنع‬           ‫الفراش لأكثر من شهرين‪ .‬لكنك تعافيت في النهاية‪.‬‬
                                                        ‫وغابت أعراض المرض وبقيت الندبة كآثار جرح‬
       ‫وهو يراقبك في المركب الطافية على صفحة‬             ‫عميق‪ .‬وحين عاودتك الحمى‪ ،‬بعد شهور‪ .‬وغبت‬
  ‫النهر‪ .‬وقد شغلك أمر الذيب واهتمامه بك على هذا‬            ‫عن العالم تهذي‪ .‬قالت الج َّدة قلبي يحدثني أن‬
  ‫النحو‪ ،‬فيما يراودك شعور مثل مسمار في القلب‪.‬‬            ‫الواد سيموت‪ .‬رفضت أن يذهبوا بك إلى الطبيب‬
                                                      ‫الإنجليزي مرة أخرى‪ .‬وبصوتها الذي حين يعلو لا‬
    ‫وخز الخذلان من أهلك الذين نسوك في المقبرة‬          ‫يقدر أعتى رجال العائلة أن يفعل شيئًا إلا الامتثال‬
  ‫حيًّا‪ .‬وتمنيت أن تج َد مكا ًنا للذيب في القارب حتى‬   ‫طلبت أن يعد لك كفن‪ ،‬وأن تضعك بيدها في مقبرة‬
                                                       ‫العائلة‪ ،‬وأن تنتظر بجوارك فإ َّما أن تخرج لها حيًّا‪،‬‬
                         ‫تصحبه معك في رحلتك‪.‬‬             ‫أو أن يقضي الله أم ًرا كان مفعولا‪ ،‬بعدما جهزت‬
    ‫ولكنه لم يغب عن عينيك‪ :‬فكلما استيقظت من‬
 ‫غفوة أو طالعت الشاطئ إلا ولمحته‪ ،‬حتى كدت أن‬                   ‫الرقيات والتمائم والتعاويذ‪ ،‬وآيات الذكر‪.‬‬
    ‫تقفز من القارب منهيًا رحلتك لكي تبقى بجانبه‪.‬‬       ‫تذكرت كل ذلك في ومضة‪ ،‬ثم ألقيت بنفسك في‬
  ‫ثم انشغلت عنه بتعليمات الريس‪ ،‬وبالمهام التي‬         ‫مياه النهر الباردة‪ .‬لم تكن تزيل عن جسدك ما علق‬
  ‫ألقيت على عاتقك‪ ،‬وبالخواجة الذي كان يتأمل كل‬
‫ما حوله كما لو أنه يشاهد أسطورة‪ ،‬مما جعلك تعيد‬
‫تأمل كل شيء بعينيه‪ ،‬وإن كنت مثله ترى ك َّل شي ٍء‬

                                      ‫لأول مرة‪.‬‬
   74   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84