Page 78 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 78

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪78‬‬

                                                       ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

        ‫حين اقتربوا قال لك الصبي إن «الر ّيس»‬              ‫الوقت أخرج الذئب من صدره همهمات غامضة‬
      ‫هو الرجل صاحب الشارب الغليظ الأطول بين‬                  ‫أدركت منها أنه يتف َّهم ك َّل كلمة قلتها له‪ ،‬وأنه‬
                                                                        ‫سيكون لك نعم الصحبة والرفيق‪.‬‬
   ‫المع َّممين‪ ،‬فذهبت إليه وقلت له إنك من أهل قرية‬
    ‫بعيدة‪ ،‬وأن أهلك على سفر بعيد‪ ،‬وطلبت منه أن‬              ‫وقد بلغتما النهر عند الفجر‪ ،‬فوجدتما مركبًا‬
                                                       ‫كبي ًرا راسيًا على الشاطئ‪ ،‬ستعرف لاح ًقا أن اسمها‬
                        ‫تصبح واح ًدا من بحارته‪.‬‬
‫وبالرغم من مزاج الريس المتقلب لكن إقبالك عليه‬                ‫«دهبية» وليست مركبًا‪ ،‬تض ُّم مقصورة خلفية‬
                                                          ‫مكونة من غرفتين صغيرتين‪ .‬وحين اقتربت منه‬
  ‫بلا ته ُّيب جعله يتأملك‪ ،‬يحاول أن يقدر عمرك‪ ،‬ثم‬      ‫وتبينت أنه ليس مركبًا للصيد‪ ،‬وجدت صبيًّا ملتح ًفا‬
    ‫قال بلا تردد‪« :‬سنذهب من هنا للأقصر وبعدها‬
                                                             ‫ببساط صوفي بسبب البرد‪ ،‬وقد غطى وجهه‬
     ‫لأسوان‪ ،‬فأين وجهتك؟»‪ ،‬فقلت له أسوان‪ .‬قال‪:‬‬            ‫بعمامة‪ ،‬وغ َّط في نومه فأيقظته‪ .‬سألك عما تبتغي‬

             ‫«ج ِّهز نفسك فسوف نبحر بعد قليل»‪.‬‬          ‫فقلت له إنك تو ُّد الإبحار معهم إلى الشمال‪ .‬أخبرك‬
   ‫ابتعدت عن الجماعة وذهبت إلى الذيب وأعدت‬                ‫أن الدهبية مؤجرة لأجنبي سيصحبه البحارة إلى‬

  ‫عليه ما قلت من قبل‪ ،‬فهز رأسه تف ُّه ًما من دون أن‬       ‫الجنوب‪ .‬وإزاء تع ُّجلك ورغبتك في مغادرة القرية‬
  ‫يخفي حزن عينيه‪ .‬قلت له حتى تتخلص من تأثير‬              ‫بأي شكل قلت له إنك ترغب في الإبحار معهم إلى‬

    ‫عينيه أن اللُقا نصيب‪ .‬ظل يح ِّدق في عينيك هذه‬          ‫الجنوب‪ .‬ولم يجد الصبي ما يرد به عليك سوى‬
‫المرة‪ ،‬ابتعدت عنه‪ ،‬ثم انتحيت بعي ًدا حتى بلغت بقعة‬
‫من الشاطئ مالت عليها شجرة وارفة الأوراق‪ ،‬ظللت‬                 ‫الانتظار حتى يأتي ر ِّيس المركب والخواجة‪.‬‬
                                                             ‫في هذه اللحظة انتبهت لرفيقك وقلت له‪ :‬يا‬
 ‫المياه أسفلها فجعلتها آمنة من عيون المتلصصين‪.‬‬
                                                        ‫ذيب يبدو أن طريقنا سينتهي هنا‪ ،‬فلا يمكن لي أن‬
      ‫خلعت جلبابك فعدت عار ًيا كما ولدتك أمك‪.‬‬
       ‫انتبهت للجرح أسفل خصرك‪ ،‬ووضعت يدك‬                ‫أصحبك على ظهر القارب‪ .‬أشكر صحبتك ورعايتك‬
                                                                                          ‫فاعت ِن بنفسك‪.‬‬
  ‫تتح َّسس الندبة الطويلة التي شقت خصرك الأيمن‬
  ‫من منتصفه والت َّفت من تحت ال ُس َّرة مرو ًرا بجنبك‬  ‫أحنى الذيب رأسه بإحباط‪ ،‬فلم تدرك أذاك امتثا ٌل‬

     ‫الأيمن وحتى منتصف الظهر‪ .‬فبدت مثل خند ٍق‬                ‫أم عقوق‪ .‬وتأ َّملت وجهه‪ ،‬فتبينت أنه أقرب في‬
                                                         ‫الشكل لق ٍّط عجوز مبتسم‪ ،‬لا يعدم ملامح الذئاب‪،‬‬
  ‫محفور في جانبك الأيمن‪ ،‬كما لو أنها موضع قطع‬
                                                           ‫وخصو ًصا أذناه الطويلتان‪ .‬وإذ سمعت أصوا ًتا‬
                                      ‫سيف باتر‪.‬‬            ‫قريبة فطلبت منه أن يبتعد بإشارة امتثل لها بلا‬

‫استدعت ذاكرتك شهور المرض الطويلة‪ ،‬مبادرات‬                                                      ‫مراجعة‪.‬‬
                                                          ‫رأيت الخواجة قاد ًما من بعيد‪ .‬كان رج ًل أحمر‬
    ‫علاجك على يد حلاقي الصحة‪ ،‬ثم شيوخ القرى‬             ‫البشرة‪ ،‬ضخم البنية وطويل القامة‪ ،‬يرتدي قمي ًصا‬

       ‫ممن عرفوا بالطب الشعبي‪ .‬الوسائل البدائية‬             ‫نوبيًّا أبيض طوي ًل‪ ،‬ويعتمر طربو ًشا أحمر‪ ،‬في‬
                                                        ‫صحبة عدد من الرجال المع َّممين‪ ،‬ومن بينهم اثنان‬
   ‫التي اقترحتها جدتك والتي لم تمنع تفاقم الحالة‬       ‫يرتديان ملابس مدنية فلم تعرف أمن أهل المدينة أم‬
    ‫المرضية التي لم يعرف لها أحد مثي ًل‪ ،‬إذ كانت‬
                                                        ‫أنهم خواجات‪ .‬كانوا يتحدثون بلغة هجين لا تعرف‬
   ‫أجزاء من جسدك تتخثر وتتلف‪ ،‬وهاجمت البقعة‬
                                                       ‫منها النوبي من العربي ولا الشركسي من الفرنسي‪،‬‬
    ‫التي تقع حول خصرك‪ ،‬كان جسدك يأكل نفسه‬
                                                          ‫وبإشارات كان الأجنبي يرد عليها بابتسامات أو‬
                                         ‫بنفسه‪.‬‬
  ‫ش ّخص الحالة أحد حلاقي الصحة الذي تخلَّى‬                                                ‫يردها بمثلها‪.‬‬

     ‫عن الشعوذة‪ ،‬وكان تشخيصه الذي لم يصدقه‬

   ‫أحد هو نفس ما توصل إليه مم ِّرض ساعد طبيبًا‬
   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82   83