Page 32 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 32

‫العـدد ‪37‬‬   ‫‪30‬‬

                                                       ‫يناير ‪٢٠٢2‬‬

   ‫من تسول له رؤيته النقدية أن يتجاوز المطروح‪،‬‬             ‫منها‪ ،‬وإنما كشف عن الإقصاء المتعمد من ِق َبل‬
 ‫ويقدر قيمة إنتاجه الحضاري والفني الخاص‪ ،‬مما‬              ‫مراكز القوى لكل ما يرونه مختل ًفا‪ ،‬ولا يتوقف‬
  ‫جعل كثي ًرا من النقاد يؤثرون السلامة‪ ،‬ويكتفون‬           ‫هذا الإقصاء عند التجاهل فحسب‪ ،‬وإنما يتعدى‬
‫بمحاولات حيية لتسليط الضوء على بعض المقاربات‬              ‫ذلك إلى تقديم النموذج الغربي بوصفه النموذج‬
                                                            ‫المثالي المانح‪ ،‬ولا نسعى على الإطلاق إلى إنكار‬
                              ‫النقدية والإبداعية‪.‬‬       ‫الإسهامات الفنية العظيمة التى قدمها المبدعون في‬
    ‫ثم حاول خطاب التمثل الثقافي الإفلات من أسر‬          ‫الغرب للإنسانية‪ ،‬ولكننا نسعى لأن يدرك الجميع‬
                                                         ‫أن الإبداع الإنساني يمضي في سلسلة حضارية‬
        ‫خطاب التبعية الذي هيمن لفترة طويلة على‬
 ‫الأوساط الفكرية‪ ،‬وبمزيد من الوعي بقدرات الذات‬              ‫متصلة وليس في خط أحادي من المانح المفكر‬
                                                       ‫المبدع الناقد (الغرب) إلى الممنوح الناقل التابع المقلد‬
   ‫وقدرات الآخر سعى للكشف عن طرائق وآليات‬
‫تلقي الفنون والأفكار المختلفة‪ ،‬ثم تمثلها ثقافيًّا عبر‬     ‫(الشرق)‪ ،‬فذلك تزييف حضاري وثقافي متعمد‪،‬‬
                                                         ‫وقد رسخ هذا الزيف الحضاري أفكاره عبر عدة‬
   ‫مجموعة من محددات الهوية وإعادة إنتاجها بما‬
‫يلائم الذوق الجمالي والفكري الخاص بكل مجتمع‪،‬‬              ‫مستويات؛ بد ًءا ببتر حلقات من سلسلة الإبداع‬
  ‫إلا أنه لم يتجاوز فكرة الوافد الغربي المثال أي ًضا‪،‬‬   ‫الإنساني وإنكار إسهامات الحضارة العربية فيها‪،‬‬
‫وإنما انصب اهتمامه على آليات التعامل معه وكيفية‬         ‫أو حصر هذا الإسهام في دور ساعي البريد الذي‬

                                          ‫تمثله‪.‬‬            ‫نقل عبر الترجمات حضارات العالم القديم إلى‬
        ‫هذا وقد ظهرت مؤلفات تثمن النتاج الثقافي‬            ‫العالم الغربي الحديث(‪ ،)2‬ثم استقطاب البعثات‬
    ‫والفكري العربي‪ ،‬وتكشف عن عمليات الإقصاء‬                ‫العلمية من العالم العربي التي أفرزت جي ًل من‬
  ‫والتهميش المتعمدة للتنكر للدور الحضاري الكبير‬        ‫المثقفين العرب المنبهرين بالعالم الغربي والمنجذبين‬
   ‫الذي لعبه العرب‪ ،‬كما يتبدى بوضوح في كتابات‬            ‫بشدة نحو المركزية الغربية‪ ،‬ومن ثم نشأ خطاب‬
‫المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (‪،)1999 -1913‬‬            ‫التبعية الذهنية مناه ًضا لذلك الاستلاب الفكري‬
    ‫ومن أهم مؤلفاتها في هذا الصدد كتاب «شمس‬                ‫والثقافي‪ ،‬لكنه كان محطة مهمة أي ًضا في تمكين‬
 ‫العرب تسطع على الغرب»‪ .‬وفي الوقت الراهن نجد‬               ‫الإمبريالية الغربية‪ ،‬حيث رسخ للأفكار نفسها‬
‫في كتابات الفيلسوفة والعالمة الجليلة الدكتورة يمنى‬      ‫التى نهض مناو ًئا لها؛ إذ صورها من بين الأقدار‬
  ‫الخولي في مجال فلسفة العلوم إبرا ًزا لدور العرب‬      ‫السيئة التي فرضت علينا والتى لا فرار منها‪ .‬وإذا‬
   ‫في إنتاج العلم والفكر والفلسفة على مر العصور‬           ‫كان بعض المنبهرين بالثقافة الغربية قد تنكروا‬
    ‫عبر دراسات دقيقة ومعمقة وكاشفة(‪ ،)3‬وكذلك‬            ‫للتراث وصنعوا معه قطيعة معرفية‪ ،‬فإن القائلين‬
   ‫في كتابات الفيلسوف والأنثروبولوجي السنغالي‬               ‫بالتبعية الذهنية لم يروا كذلك أهمية وصل ما‬
    ‫الشهير سليمان بشير ديان الذي أشار في أكثر‬             ‫انقطع من سلسلة التطور الحضاري‪ ،‬ظنًّا منهم‬
  ‫من موضع في كتاباته وحواراته إلى فاعلية الدور‬          ‫أن بوسع الناس التخلص من تبعيتهم والبحث عن‬
‫العربي في إنتاج الفكر والرياضيات والفلسفة‪ ،‬وهي‬         ‫حلول لمشكلاتهم في واقعهم‪ .‬وهذا وإن كان طمو ًحا‬
  ‫مجالات اهتمامه الرئيسية(‪ ،)4‬فض ًل عن أنه أشار‬         ‫مشرو ًعا؛ فقد أسلمهم في النهاية لهوة من السبات‬
‫إلى أن الفلسفة هي وليدة مشترك إنساني‪ ،‬ومن غير‬               ‫العميق والإحساس بالفشل والدونية؛ إذ ليس‬
‫المنطقي أن تحمل جنسية محددة‪ ،‬ومن أقواله الدالة‬          ‫بمقدور الإنسان أن يعيد اكتشاف ذاته إلا بتحديد‬
    ‫في هذا الصدد «من الخطأ الاعتقاد بأن الفلسفة‬              ‫موقعه من سلسلة التطور الحضاري وتقدير‬
  ‫اختراع أوروبي أوجدته المعجزة اليونانية‪ ،‬وبيان‬             ‫ما يملك من إمكانات وما يحمل من موروثات‬
‫ذلك أن الممارسة الفلسفية غرست في جسد الإنسان‬               ‫وما يتطلع إلى تحقيقه من إنجازات وإسهامات‬
  ‫انطلا ًقا من اللحظة التي دفن فيها موتاه‪ ،‬وتساءل‬         ‫في سلسلة الحضارة الإنسانية‪ .‬ولإحكام سطوة‬
‫حول معنى الحياة‪ ،‬وز َّين الأضرحة بالأعمال الفنية‪،‬‬      ‫الإمبريالية ظهرت اتهامات جاهزة بالشوفونية لكل‬
   ‫ثم إن جميع الثقافات بما فيها الثقافات الشفوية‪،‬‬
   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37