Page 19 - merit 39 feb 2022
P. 19

‫نحن أمام حيرة يعبر عنها فعل التساؤل‬                           ‫قصيدة «أينك يا الله» في ميزان‬
                                                                           ‫التلقي‬
   ‫والتعجب‪ ،‬لكنها حيرة تبحث عن منفذ‬
                                                                ‫اختارت هذه الدراسة أجرأة مفاهيم نظرية‬
   ‫للخروج إلى جو اليقين؛ الجو الذي ينزع‬                        ‫التلقي التي أتى بها ياوس على نص شعري‬

‫كل غ ٍّل عن اليدين المكبلتين‪ ،‬ويطلقهما‬                           ‫مأخوذ من ديوان «ذاكرة الوجع» للشاعر‬
                                                                   ‫عبد اللطيف شاكير‪ .‬وسنسعى إلى بيان‬
‫في رحابة الفضاء الفسيح‪ .‬هاته الصرخات‬
                                                                ‫المردودية التأويلية التي يمكن أن تمدنا بها‬
    ‫والأنات تطهير للشاعر كما للقارئ من‬                                                    ‫هاته النظرية‪.‬‬

   ‫كل الشوائب التي علقت بنفسيهما‪ ،‬إذ‬                              ‫إن هاته النظرية تركت للقارئ الحرية في‬
                                                                 ‫تتبع دلالات النص‪ ،‬فهي لم تعطنا مفاهيم‬
      ‫القصيدة هنا مقاومة للرعب والخوف‬                           ‫صارمة‪ ،‬حتى وإن ادعت ذلك‪ ،‬وإنما تركت‬
                                                               ‫أمر فهم النص وتفسيره رهنًا بقدرة المتلقي‬
‫اللذين تم َّكَنا من نفس الشاعر ووجدانه‪..‬‬                       ‫وبالذخيرة التي يمتلكها‪ .‬وعلى هذا الأساس‪،‬‬

  ‫قد يكون في كلامنا شيء من التناقض‪،‬‬                                  ‫فإننا اخترنا ما يتعلق بأجرأة مفهوم‬
                                                                  ‫مركزي تتمحور حوله باقي المفاهيم‪ :‬إنه‬
                        ‫لكن لا ضير في ذلك!‬                     ‫مفهوم أفق التوقع وإجرائية الأزمنة الثلاثة‪.‬‬
                                                                  ‫يتوقع القارئ بمجرد وقوع هذا الديوان‬
  ‫منا‪ .‬يتساءل عالم النفس الشهير ويليام جيمس عن‬                 ‫بين يديه الإحالة إلى الذاكرة؛ أي «استرجاع‬
    ‫معنى التذكر‪ ،‬فيجيب‪« :‬التذكر_ هذا يعني التفكير‬          ‫واستذكار التجربة الماضية‪ ،‬كواحدة من السمات‬
       ‫بشيء ما‪ ،‬كان معا ًشا في الماضي‪ ،‬ولم نحاول‬        ‫الأساسية للجهاز العصبي‪ ،‬والتي تنعكس في القدرة‬
     ‫نحن أن نفكر فيه قبل ذلك مباشرة»(‪ .)27‬الذاكرة‬         ‫على الاحتفاظ المديد بالمعلومات حول وقائع العالم‬
  ‫تحيل إلى فعل الرجوع إلى الوراء‪ ،‬محاولة استذكار‬           ‫الخارجي واستجابات العضوية وإدخالها المتعدد‬
      ‫ما كان في الماضي‪ .‬عادة نحن لا نريد أن نتذكر‬           ‫في وشائج الإدراك‪ /‬المعرفة‪ /‬السلوك»(‪ ،)26‬إنه‬
     ‫إلا لحظاتنا الجميلة‪ ،‬غير أن هاته الذاكرة خالفت‬       ‫استرجاع مليء بالآلام؛ ذلك أن هذا الماضي شكل‬
   ‫المعهود‪ ،‬فهي تستبطن كل الأوجاع والأحزان التي‬              ‫تجربة فيها من المعاناة والقسوة ما جعل هذه‬
   ‫تجعل الشاعر ينغمس في جو من الكآبة الوجودية‪،‬‬          ‫الذاكرة‪ ،‬بمجرد اشتغالها‪ ،‬تحيل إلى وضعيات كانت‬
                     ‫فتحيل الكون في عينيه سوا ًدا‪.‬‬           ‫سببًا في مأساة الشاعر على المستوى النفسي‪.‬‬
   ‫‪ -‬الثاني‪ :‬لوحة الغلاف‪ ،‬وهي لوحة منتقاة بعناية‪،‬‬       ‫إن كل شيء في هذه الذاكرة يبعث على اليأس‪ ،‬فهي‬
       ‫إذ إن الشاعر اختار أيقونة تمثل وج ًها بشر ًّيا‬    ‫لم تختزن سوى ذكريات حزينة‪ ،‬أسهمت في ميلاد‬
       ‫منحو ًتا‪ ،‬من سماته أن المكان الذي يفترض أن‬        ‫إنسان ك َّون نظرة متوترة حول الوجود وقضاياه‪.‬‬
      ‫توجد فيه الذاكرة به فراغ وشرخ كبير‪ .‬إن هذا‬             ‫إننا هنا أمام استرجاع سلبي يوقظ فينا صور‬
     ‫الفراغ يولد وج ًعا وقه ًرا يتبدى عبر الفاه الفاغر‬       ‫ماض عصي على النسيان؛ ماض ل َّخص بكلمة‬
                  ‫الذي يحيل إلى الألم وقوة المعاناة‪.‬‬      ‫واحدة‪« :‬وجع»‪ .‬إن هذا المسار التأويلي يتعزز من‬
    ‫وبما أن الأيقونة علامة تحيل إلى موضوعها عن‬
    ‫طريق المشابهة عند بورس‪ ،‬فهذه المنحوتة تقودنا‬                           ‫خلال ثلاثة مؤشرات أساسية‪:‬‬
       ‫مباشرة إلى صورة الإنسان في أقصى لحظات‬                  ‫‪ -‬الأول‪ :‬يتمثل في عنوان الديوان؛ إنه المدخل‬
    ‫توجعه‪ ،‬خاصة ما يتعلق بالوجع الذهني العاطفي‬               ‫الأساس لكل قراءة متسقة ومنسجمة‪« :‬ذاكرة‬
                                                           ‫للوجع»‪ .‬نحن أمام فعل تذكري‪ ،‬فعل ليس للمرء‬
                                                          ‫القدرة على مجابهته‪ ،‬فهو يجتاحنا على حين غفلة‬
   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24