Page 20 - merit 39 feb 2022
P. 20
العـدد 38 18
فبراير ٢٠٢2
جميلة .إن بستاني ذاكرته انتقائي ماهر ،لكنه الذي لا يجد منه مخر ًجا .وبزيادة تأملنا لعيني هذه
ينتقي فقط ما يقلِّب المواجع ،ويجعل الشاعر مكب ًل المنحوتة ،نجدهما قد أبديتا ما كان خفيًّا على الرائي،
بجراحه وسقطاته. إذ العين تكشف ما لا يريد إبداءه القلب أحيا ًنا،
لنعرج على الديوان ،ولنعط رأينا في القصيدة التي فهاتان العينان تحملان أسى الأيام ومرارتها في
اخترنا ،أليست القراءة الأولى متحررة من كل قيد
نظرة واحدة ،ولذلك نابتا عن كل الكلمات التي
أو شرط؟ أليست داعمة لنفض الأغلال عن كل يمكن أن تعبر عنهما.
قارئ؟ أجل ذلك مرماها .نحن أي ًضا سنتحرر،
وسنصف قصيدة« :أينك يا الله؟!» بأنها قصيدة -الثالث :القصيدة المكتوبة على ظهر الغلاف ،إنها
مكتملة ،إذ تشعر القارئ بنوع من محاولة التحرر؛ قصيدة تحيل إلى الغربة التي يعانيها الشاعر؛
التحرر من الرعب ،التحرر من الماضي ،التحرر
من القدر ..إن التحرر من كل هاته الأشياء هو ما غربة ليست في المكان الذي يتواجد فيه ،فهو ليس
يسعى إليه القارئ بدوره ،لذلك ،فالشاعر يملي على كالشعراء الحداثيين الذين ألفوا أنفسهم غرباء في
المدينة ،وإنما هي غربة في صميم الذات؛ فما أقسى
القارئ مشاعره ،إنه شبيه بمذكر درويش:
«كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها». أن تجد نفسك غريبًا عن ذاتك:
«غريب أنا عليَّ
النبرة التي كتبت بها القصيدة تزعزع كيان المتلقي،
فهي بمثابة صرخة على كل ما يكبل ذاكرة وجسد أحمل وجه الصخرة
وأسكن المنحدر».
وحاضر الشاعر ،ولذلك نجده دائم التساؤل بل
والتعجب: تشترك هاته المؤشرات الثلاثة في الإحالة إلى الألم
والمعاناة ،وبذلك فهاته الذاكرة يمكن وصفها بأنها
« -أنا الكافر تابع الوثن؟» ذاكرة سلبية .النسيان هو النقيض المباشر للتذكر،
« -أينك يا الله؟!»
في حين تشكل اللذة نقيض الوجع والألم .ما
« -لماذا لم تجدني؟» يبتغيه كل امرئ منا هو اللذة والسعادة ،حتى وإن
« -وما رأيت بح ًرا شق لي!»
نحن أمام حيرة يعبر عنها فعل التساؤل والتعجب، كان ذلك يتحقق عن طريق النسيان ،أما الذاكرة
لكنها حيرة تبحث عن منفذ للخروج إلى جو اليقين؛ التي توقظ فقط المواجع والأحزان فهي وبال على
الجو الذي ينزع كل غ ٍّل عن اليدين المكبلتين،
ويطلقهما في رحابة الفضاء الفسيح .هاته صاحبها.
الصرخات والأنات تطهير للشاعر كما للقارئ من استنا ًدا إلى هذه المؤشرات التي شكلت طوبيكا لدى
كل الشوائب التي علقت بنفسيهما ،إذ القصيدة
هنا مقاومة للرعب والخوف اللذين تم َّك َنا من نفس القارئ ،ينبني لدينا أفق توقع يتمحور كله حول
وصف معاناة الشاعر من أثر استرجاع الماضي،
الشاعر ووجدانه. لأنه ما ٍض أليم ،وليس حنينًا .إذ الحنين استرجاع
قد يكون في كلامنا شيء من التناقض ،لكن لا
ضير في ذلك ،فنحن لم نتجاوز القراءة الأولى بعد، لكل ما هو جميل .يقول محمود درويش:
وسنعرف إن كنا نتبع مسا ًرا سلي ًما أم لا بواسطة «الحنين استرجاع للفصل الأجمل
قراءة نسترجع فيها كل ما قلناه عن طريق طرح
في الحكاية :الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
تساؤلات تنصب على النص في شموليته. هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة
تستحوذ على نظر الرائي كلمة« :رعب» بمجرد ولا يولد من جرح
دخوله عالم النص ،تتكرر خمس مرات ،لتشكل فليس الحنين ذكرى
بذلك الكلمة المحورية التي تدور حولها باقي أسطر بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
البداية ،بل والقصيدة عمو ًما .فما الذي يرعب الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد ُصفيت من الشوائب»
لم يص ِّف شاعرنا ذاكرته من الشوائب ،وإنما
تركها تجتاحه ،فلم يسترجع معنا إلا الفصل الأسوأ
في الحكاية ،الفصل الذي صفي من كل حادثة