Page 250 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 250

‫عند مجموعة مكونات تولّد منطقة‬             ‫تمّيزت الأعمال الاستشراقية التي اندرجت‬
  ‫مشتركة‪ ،‬تقوم على توازنات بين‬              ‫ضمن الدراسات "السوسيولوجية" للشرق‬
‫الأضداد وعلى حاضر يظهر كغياب‬
  ‫في اللوحة‪ .‬فغياب حس التاريخ‪،‬‬                ‫بأسلوب واقعي ولغة تشكيلية بليغة‬
                                           ‫الوصف إلى حد المبالغة‪ .‬وصف يبتعد عن‬
       ‫والتغيير الوقتي في لوحات‬         ‫التجريد والغموض ويّتصف بالدقة والمهارة‪.‬‬
  ‫المستشرقين يرتبط بغياب بارز‪،‬‬             ‫لكنها رغم ذلك لوحات تقف عند مجموعة‬
                                            ‫من الغيابات ‪ absences‬عندما نعي بها‬
     ‫يتعلّق الأمر بتواري أي أمارة‬
   ‫عن الوجود الاستعماري بها‪ .‬لا‬              ‫تتمّثل كحاضر يفرض نفسه‪ ،‬أو بالأحرى‬
                                                ‫كإشارة لنوع من التجريد المفاهيمي‬
    ‫تحضر أي إشارة عن الوجود‬
 ‫الأوروبي في اللوحات التصويرية‬          ‫اللوحة أمام غياب مهم يطول أغلب‬           ‫يتّكئ على جدار‪ .‬عنوان اللوحة‬
‫كشارع مكناس‪ .‬بل يمكن القول إن‬               ‫اللوحات الاستشراقية‪ ،‬أسمته‬          ‫لا يوحي إلى قصة الشخصيات‬
‫أهم مميزات اللوحات الاستشراقية‬               ‫الناقدة ليندا نوكلين (‪-1931‬‬       ‫التي يص ّورها دولاكروا‪ -‬شارع‬
                                           ‫‪2017‬م) بغياب التاريخ‪ .‬الوقت‬        ‫مكناس‪ ،‬وكأنه يش ّد انتباه المتلقي‬
      ‫هو اقتران وجودها بحاضر‬                 ‫يظل ساكنًا في لوحة «شارع‬         ‫إلى شارع على جنباته باب مقوس‬
    ‫يتش ّكل دائ ًما على شكل غياب‪:‬‬             ‫مكناس» كما الحال في أغلب‬        ‫على الطراز المغربي والشخصيات‬
  ‫غياب المستعمر الأوروبي وغياب‬             ‫اللوحات الاستشراقية المتخيّلة‪.‬‬
  ‫السياح الأجانب‪ .‬لكن المستشرق‬             ‫دولكروا يق ّر في لوحته‪ ،‬أن هذا‬            ‫هي مجرد مكونات تدخل‬
    ‫رغم ذلك يبقى حاض ًرا ضمنيًّا‬                                                 ‫ضمن قصة الجدار أو الشارع‬
   ‫في اللوحة‪ ،‬فهو صاحب النظرة‬            ‫الشرق هو مكان لا يطوله التغيير‬         ‫المص ّور باللوحة‪ .‬لا غور أن تلك‬
     ‫المتح ّكمة التي شكلّت الوجود‬          ‫والتط ّور‪ ،‬تميّزه عادات وأعراف‬     ‫الشخصيات تظهر حائرة وملغزة‪،‬‬
  ‫الشرقي المتخيّل‪ .‬فنان كدولكروا‬         ‫لا تقيسها المراحل التاريخية التي‬       ‫وكذلك نحن‪ .‬فالغرض الأساس‬
     ‫يسعى جاه ًدا إلى جعل المتلقي‬           ‫ألمّت بـ‪ ،‬بل وغيّرت المجتمعات‬
 ‫ينساق ضمن الخلطة اللونية التي‬           ‫الغربية في تلك الحقبة‪ .‬وقد كانت‬            ‫من اللوحة هو خلق الحيرة‬
   ‫يقدمها في لوحته وجعله ينسى‬              ‫نفس الحقبة زمن تغيير واضح‬               ‫ووضع المتلقي أمام غموض‬
  ‫عملية استحضار الواقع الشرقي‬                ‫في الشرق أي ًضا‪ .‬تغيير ُو ِس َم‬      ‫الشرق وواقعه المحيّر‪ .‬ولعله‬
     ‫المتخيل عبر متاريس بصرية‬             ‫بالعنيف والجذري بسبب التأثر‬            ‫التيمة الأساسية للأيديولوجيا‬
 ‫ُتقنع المتلقي أن أعمال كتلك ليست‬          ‫بالقوة التكنولوجية والعسكرية‬
   ‫إلا انعكا ًسا‪ ،‬وأنها علمية في د ّقة‬      ‫والاقصادية والثقافية للغرب‪،‬‬              ‫الاستشراقية بصفة عامة‪.‬‬
 ‫تصويرها‪ .‬وذلك يتحقق عبر غنى‬                    ‫وبسبب الحضور الصادم‬             ‫رغم الغنى المل ّح‪ ،‬أو ربما بسبب‬
  ‫اللوحة وتفاصيلها الواقعية التي‬             ‫للمستعمر الفرنسي في البلاد‬
 ‫توهم المتلقي في حقيقة أنها مجرد‬                                                   ‫غزارة الخلطة البصرية التي‬
     ‫صورة على قماش‪ ،‬بل تجعله‬            ‫العربية‪ .‬الصورة المهمة التي تجنّب‬            ‫يق ّدمها دولكروا في لوحته‬
  ‫يعيش الواقع الشرقي بتفاصيله‬             ‫دولكروا وغيره من المستشرقين‬              ‫‪-‬الصورة المغرية للسيدتان‬
‫المملة محققة ما س ّماه رولان بارط‬              ‫من تصويرها في لوحاتهم‪.‬‬
    ‫(‪ِ .)L’effet de réel‬يؤ ِكد هذا‬          ‫المتف ّحص للوحة دولكروا يقف‬        ‫الواقفتان والسيّد الجالس‪ ،‬الباب‬
‫الأخير أن وظيفة تفاصيل كتلك في‬                                                ‫المق ّوس الذي ُيظهر صورة أصيلة‬
  ‫العمل الفني أو الأدبي هي تأكيد‬                                              ‫للطراز المعماري المغربي‪ ،‬والنافذة‬
   ‫حقيقة العمل وإضفاء المصداقية‬
                                                                                 ‫الصغيرة بالجدار‪ -‬يقف قارئ‬
                          ‫عليه‪.‬‬
   245   246   247   248   249   250   251   252   253   254   255