Page 102 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 102

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪100‬‬

                                                   ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

‫عاد فريد لمنزله‪ ،‬طوال الطريق يعاود النظر لملابسه‬       ‫تهتز لا ترى أمامها‪ .‬أجساد هاوية لا تقدر على‬
   ‫في شك‪ ،‬وجد زوجته تجلس مع ابنهما يشاهدان‬         ‫الحياة ولا تعرف يمينها من يسارها‪ ،‬يأكلون القليل‬
   ‫التليفزيون م ًعا‪ ،‬قطع انسجامهما‪« :‬مساء الخير‪..‬‬
   ‫طارق لقد منعتك من السهر اذهب لغرفتك»‪ ،‬نظر‬          ‫ولا يعرفون نهاية قصتهم‪ ،‬يسألون الله كل ليلة‬
                                                                  ‫الصفح‪ ،‬ولكن بئ ًسا لقوم يظلمون‪.‬‬
 ‫ابنه إليه في غضب‪ ،‬ووجهت له زوجته نظرات لوم‬
 ‫ولكنها لم تتكلم‪ ،‬وخاطبت ابنها قائلة‪« :‬هيا حبيبي‬          ‫خرج الرجال والنساء في الشوارع ينصتون‬
                                                   ‫للمجذوب‪ ،‬يهزون رؤوسهم‪ ،‬يأكلهم الندم‪ ،‬ينظرون‬
                              ‫موعد نومك الآن»‪.‬‬      ‫جمي ًعا للسماء فلا يرون شيئًا‪ ،‬يعلو صوت البكاء‪،‬‬
   ‫انطلق الطفل إلى غرفته‪ ،‬نظرت زوجته إليه قائلة‪:‬‬    ‫ويصرخ المجذوب عاليًا‪ ،‬وعبلة هناك‪ ،‬بعي ًدا‪ ،‬تسمع‬
    ‫«ألن تغير طريقتك الفظة مع ابنك؟ أنت حتى لم‬
                                                                            ‫بكاء قرية لا ينام أهلها‪.‬‬
     ‫تتذكر عيد ميلاده»‪ ،‬تجنب النظر إليها ثم قال‪:‬‬
  ‫«اشتريت له هدية»‪ ،‬هزت رأسها غضبًا‪ ،‬فلم تجد‬                     ‫‪ -2‬المرآة‬

                          ‫فائدة من الحديث معه‪.‬‬          ‫لم يتغير شيء‪ ،‬نظرات موظفيه له على حالها‪،‬‬
‫سألها فريد‪« :‬ما رأيك بمظهري؟»‪ ،‬نظرت له زوجته‬        ‫يخافونه ويتجنبون الاحتكاك به‪ ،‬لم يسأله أحدهم‬
‫مندهشة وردت‪« :‬رائع كالعادة كما تعلم»‪ ،‬ثم تركته‬       ‫عن ملابسه‪ ،‬ولم يسمع الجملة التي ينتظرها منذ‬

                                        ‫وذهبت‪.‬‬           ‫الصباح‪« :‬ما هذه القذارة التي تغطي بذلتك»‪.‬‬
‫تجاهل غضب زوجته منه‪ .‬كان تفكيره مرتك ًزا حول‬           ‫في الصباح‪ ،‬دعك «فريد» عينيه طوي ًل‪ ،‬نظر إلى‬
                                                       ‫المرآة للمرة المائة‪ ،‬وجد ملابسه متسخة تما ًما‪،‬‬
    ‫تلك المرآة التي حولت حياته لجحيم وهزت ثقته‬        ‫تملؤها البقع في كل مكان‪ ،‬دقق النظر‪ ،‬تأكد مما‬
                                        ‫بنفسه‪.‬‬
                                                                                 ‫يراه‪ ،‬فقام بخلعها‪.‬‬
   ‫دخل غرفته فوجد زوجته تجلس هناك‪ ،‬اخترقت‬            ‫فتح دولابه على مصراعيه‪ ،‬اختار ملابس جديدة‪،‬‬
 ‫خياشيمه رائحة عطرها النفاذة‪ ،‬رآها ترتدي قطعة‬
                                                        ‫تفحصها مدق ًقا‪ ،‬فوجدها نظيفة تما ًما‪ .‬ارتداها‬
    ‫واحدة حمراء كاشفة‪ ،‬لم يكن يملك الطاقة التي‬          ‫مسر ًعا حتى لا يتأخر عن موعد عمله‪ ،‬ثم عاد‬
      ‫تجعله يبذل أي جهد لإرضائها‪ ،‬لا يهتم كثي ًرا‬      ‫لينظر للمرآة‪ ،‬فوجد البقع تملأ ملابسه مجد ًدا‪،‬‬

          ‫بقميصها الأحمر‪ ،‬بينما ينشغل بملابسه‪.‬‬              ‫والقذارة في كل مكان‪ ،‬فخلع ثيابه مجد ًدا‪.‬‬
  ‫حاولت استمالته‪ ،‬رد عليها ببرودة بالغة‪ ،‬لم يهتز‬     ‫الأمر يتكرر منذ أيام‪ ،‬يرتدي ملابسه النظيفة‪ ،‬ثم‬
 ‫للدموع التي تجمعت بعينيها‪ ،‬فالشعلة التي بينهما‬    ‫ينظر للمرآة فيجدها تحولت إلى قطعة قذرة موحلة‪.‬‬
‫انطفأت منذ سنوات‪ ،‬واعتاد أن يشعل نيرانه بطرق‬
                                                       ‫صرخ في خادمه منذ يومين طالبًا منه استبدال‬
         ‫أخرى وفي أماكن مختلفة بعي ًدا عن أعينها‪.‬‬        ‫المرآة‪ ،‬ولكن ظل الوضع على حاله رغم ذلك‪.‬‬
  ‫في الصباح تكررت القصة‪ ،‬اختار ملابسه بعناية‪،‬‬
                                                       ‫دخل عم «حسين» الساعي إلى مكتبه‪ ،‬ارتعشت‬
      ‫وصدمته قذارتها عندما نظر لنفسه في المرآة‪،‬‬     ‫يداه وهو يضع له القهوة‪ ،‬هذه عادته‪ ،‬يعتبر مهمة‬
      ‫استأذن طفله للدخول إلى غرفته‪ ،‬عاتبه قائ ًل‪:‬‬
    ‫«طارق لست متفر ًغا»‪ ،‬نظر لابنه فوجد ملابسه‬         ‫دخوله للمكتب عبئًا ثقي ًل‪ ،‬يشعر به رغم أنه لا‬
‫متسخة‪ ،‬نهره بصوت عال‪« :‬ما هذه القذارة؟ اذهب‬        ‫يتكلم عادة‪ .‬وكان فريد يحب أن يخافه موظفوه‪ ،‬لا‬

                ‫لوالدتك ودعها تبدل لك ملابسك»‪.‬‬       ‫يهتم كثي ًرا بحبهم له‪ ،‬ولكنه يحب نظرات الخوف‬
‫اقترب الطفل منه مبتسما‪ ،‬وقف بجواره أمام المرآة‪،‬‬                                           ‫بأعينهم‪.‬‬

    ‫نظر فريد له وشلته الصدمة‪ ،‬لقد عكست المرآة‬        ‫سأل عم حسين‪« :‬إيه رأيك في بدلتي النهاردة؟»‪،‬‬
                        ‫ملابس ابنه النظيفة تمامًا‬    ‫لم يصدق الرجل ما سمعه ونظر إليه متهت ًها‪ ،‬لام‬
                                                     ‫نفسه على سؤاله‪ ،‬طرد عم حسين من مكتبه وهو‬

                                                                               ‫يسبه بصوت خافت‪.‬‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107