Page 202 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 202

‫العـدد ‪29‬‬                          ‫‪200‬‬

                                     ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

 ‫والفساد بكل أشكاله‪ ،‬وهذه كلها‬       ‫وبالاستسهال في التناول‪،‬‬                 ‫مؤسسات الدولة أو الجهات‬
 ‫ممارسات يتغاضى المجتمع عنها‬          ‫وبإغفال التجارب اللافتة‬                 ‫الأمنية‪ ،‬ويزيد هذا الهاجس‬
                                                                           ‫والرقابة الذاتية التي يمارسها‬
     ‫بصورة ضمنية إن لم يقرها‬               ‫لمصلحة تجارب أقل‬             ‫المسئولون فتصل إلى حد الانغلاق‬
                        ‫علانية‪.‬‬        ‫سطو ًعا‪ ..‬هل توافق على‬           ‫الفكري والابتعاد عن الموضوعات‬
                                                                         ‫«المقلقة»‪ ،‬والاحتماء بموضوعات‬
‫هذا هو الجو الذي يسمح للكتابات‬                     ‫هذا الطرح؟‬             ‫تمر دون أن تثير انتباه الجهات‬
 ‫الإبداعية بالتواجد‪ ،‬ولذلك ستجد‬                                           ‫الرقابية‪ ،‬مع التوسع غير المبرر‬
 ‫ارتفاع المستوى الفني للعديد من‬        ‫أشعر أن هذا السؤال يحتاج إلى‬          ‫في فهم «الموضوعات المقلقة»‬
 ‫الكتابات الإبداعية‪ ،‬وستشعر بأن‬         ‫توطئة ثقافية‪ ،‬قبل الشروع في‬         ‫أمنيًّا‪ ،‬بالتحديد‪ .‬وحتى داخل‬
‫الأديب المعاصر أكثر وعيًا بالأدب‬                                         ‫قاعات التدريس يكفي أن يتواطأ‬
‫وأدواته وبنائه وتاريخه من أدباء‬                         ‫الإجابة عليه‪.‬‬    ‫الطلاب على تكرار عبارة لأستاذ‬
                                         ‫في المجتمع المعاصر ولأسباب‬      ‫أو اجتزاء شيء مما قال ونشره‬
     ‫مصر في الجيل الماضي ومن‬           ‫كثيرة تم وضع الفنون الجميلة‬       ‫على الفيسبوك وتكراره‪ ،‬وستجد‬
                         ‫سبقه‪.‬‬          ‫والأخلاق في جانب باعتبارهما‬        ‫الإدارة تتدخل وتحيل الأستاذ‬
                                        ‫نشاطين جانبيين ضئيلين من‬         ‫للتحقيق‪ ،‬وهذا أمر حدث بالفعل‬
 ‫لا يمكن تجاهل الكتابات العديدة‬         ‫جهة الأهمية إلى حد ما‪ ،‬وبذلك‬       ‫مرا ًرا‪ ،‬ومن شأن هذا أن يخلق‬
      ‫التي ترصد وتحلل وتناقش‬           ‫تحول الفن والأخلاق إلى نشاط‬        ‫رقابة داخلية يمارسها الطلاب‪،‬‬
                                      ‫فردي‪ ،‬يمكن تجاهله دون خوف‬           ‫خصو ًصا في المواقف السياسية‬
    ‫الكتابات الإبداعية‪ ،‬حتى لو لم‬      ‫من العواقب‪ ،‬وساعدت موجات‬           ‫الملتبسة بالدين‪ ،‬وبالتالي تتحول‬
  ‫يكن المستوى النقدي للكثير من‬          ‫الحداثة وما بعدها على تحويل‬       ‫الجامعة إلى وسيط «راكد» ضد‬
                                       ‫الفن ‪-‬وهو مجال اهتمامنا‪ -‬إلى‬         ‫التصور العقلاني المبهر حيث‬
     ‫هذه الكتابات يصل إلى الحد‬       ‫نشاط فردي‪ ،‬وبذلك تأكد انفصال‬            ‫افترضنا (فضا ًء علميًّا عقليًّا‬
  ‫المأمول أو حتى المستوى الثقافي‬     ‫الفن عن أوجه النشاط الاجتماعية‬     ‫يسمح بالتفكير الحر والرؤية غير‬
  ‫الذي يجعلها «نق ًدا»‪ ،‬لكن لا أحد‬      ‫الأخرى‪ ،‬كالدين والعمل‪ ،‬ومن‬        ‫المقيدة‪ ،‬وإعادة مساءلة الأفكار‪،‬‬
                                      ‫ثم أصبحت ارتباطاتنا السياسية‬         ‫ونشر خلاصة هذه الممارسات‬
     ‫ينكر هذا السيل من الكتابات‬         ‫والاقتصادية والقومية أهم من‬      ‫وتقديمها إلى المجتمع) كما سبق‪،‬‬
‫والمراجعات التي لا تنتهي للإبداع‬       ‫اهتماماتنا بالأدب والأخلاق إلى‬       ‫فإذا بك في فضا ٍء تقليد ٍّي ج ًّدا‬
                                        ‫حد بعيد‪ ،‬وأما الأخلاق فيمكن‬     ‫يقوم على اجترار المعروف وإعادة‬
                       ‫العاصر‪.‬‬       ‫التأكيد على أن معاييرنا الأخلاقية‬
    ‫المشكلة في أن كل هذا النشاط‬                                                ‫تصنيفه وتقديمه ومدحه‪.‬‬
 ‫«الثقافي» تحول إلى نشاط فردي‪،‬‬              ‫‪-‬عالميًّا‪ ،‬وعربيًّا‪ -‬أصبحت‬
  ‫فمن حقك أن تكتب الشعر‪ ،‬ولن‬              ‫من المرونة إلى الحد الذي لم‬      ‫هل تعتقد أن المتابعات‬
   ‫يمنعك أحد من الكتابة‪ ،‬والنشر‬          ‫يعد معه الفن يضرها‪ ،‬ويمكن‬        ‫النقدية للأعمال الأدبية‬
‫مكفول للجميع‪ ،‬وساعدت وسائل‬                 ‫بكثير من الصدق القول إن‬
    ‫التواصل على النشر‪ ،‬وأصبح‬          ‫معاييرنا الأخلاقية أصبحت أكثر‬               ‫المتنوعة؛ تغطي‬
    ‫نصك منشو ًرا فور كتابته في‬          ‫تسام ًحا وإنسانية‪ ،‬وهي صفة‬         ‫الإنتاج الأدبي الحديث‬
    ‫الفضاء الأزرق‪ ،‬ويتفاعل معك‬           ‫تسمح بتمرير الكثير والكثير‬          ‫بشكل جيد؟ الشعراء‬
                                          ‫من السلوكيات الجنسية غير‬      ‫والساردون يتهمون النقد‬
       ‫قراؤك فو ًرا‪ .‬ونفس الكلام‬       ‫المشروعة في الأفلام والروايات‪،‬‬      ‫بالتقاعس عن المتابعة‪،‬‬
‫ينطبق على الكتابات النقدية‪ ،‬اكتب‬         ‫وكذلك الأساليب الاقتصادية‬
                                     ‫الخادعة ووسائل الغش والتحايل‬
        ‫وانشر‪ ،‬ولن يمنعك أحد‪.‬‬
     ‫المشكلة في أن هذا السيل من‬
      ‫الكتابة الإبداعية والمتابعات‬
 ‫النقدية لن تشكل تيا ًرا في الثقافة‬
      ‫المعاصرة‪ ،‬لأنها لا تزيد عن‬
     ‫أنشطة فردية‪ ،‬ولذلك سيبدو‬
   ‫لك المشهد مرب ًكا‪ ،‬وأنت تلاحظ‬
   197   198   199   200   201   202   203   204   205   206   207