Page 12 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 12
العـدد 31 10
يوليو ٢٠٢1
الناس ينتظرون كلامي»( .)15وفي موضع آخر ،يؤكد رائعة «برلين ميدان الإسكندر» ،إذ قال أمام حشد
«كنت عيو ًنا للعمي وأرج ًل للعرج»( .)16يستحضر من مواطنيه المهزومين التائهين خلف صورة
أيوب تلك الأيا َم المثمرا ِت ..ثم يعود إلى محنته التي
لا تصطبر على تحملها إلا رو ُح نبي ،فيقول« :آه هويتهم المتشظية بعد الحرب العالمية الثانية« :لن
لو كان أحد يستطيع أن يضع السخط الذي عليَّ تنصتوا للحديث .وحتى إن كنتم أنصتم بآذانكم
في الميزان ،ويضع في الوقت نفسه أوجاعي مقاب َله، فإنكم لم تفهموه ،ولن تفهموه أب ًدا لأنكم لا ترغبون
لا َّت َض َح أنها أكث ُر ِثق ًل من رمل البحر»( .)17لم يجد
أيو ُب بإزاء آلامه وأدوائه إلا دوا َء الكلمات؛ «إن في ذلك»( .)10أما في المأثور الإسلامي فقد أشار
تكلم ُت فلن أتألم من جرحي ،لكن إن صمت ما ابن عباس في موقف ما على الإما ِم َع ِلٍّ برأي،
فلم يعمل به ،ثم استدرك الإما ُم ،وقال في سياق
الذي يخفف جرحي؟»( .)18الكلما ُت المداويا ُت ُت َب ْل ِس ُم التقريظَ « :و ْي َح ابن عباس ،كأنما ينظر إلى الغيب
جرو ًحا متقرحة هنالك وآنئذ ،أو هنا والآن .بيد أن وراء ِس ْت ٍر رقيق»( .)11لا تتأتى الفراس ُة إلى الكلما ِت
ريا َح النسيان تذروها ،وعاديا ِت الأزمان ُتبليها ،إ ْن المتوسما ِت -كما في حالة كاسندرا وابن عباس-
هي لم ُت َثبَّ ْت في نسق سردي يحكي للآخرين كيف إلا من طريق الاستنارة ،أو من جهة استئناس
القائل «بحكم غيب من غير استدلال بشاهد ،ولا
تؤول التجربة العابرة والمنفلتة إلى ذاكرة راسخة اختبار بتجربة»( .)12قد يبدو لبعض العقلانيين
الأركان ..نرجح أن الحوادث وال ِف َعا َل العظام المفرطين في عقلانيتهم أن غياب الشاهد الاستدلالي
أو التجريب الاختباري كفيل با ِّط َرا ِح القو ِل وقائله
-سواء منها الـ ُم ْؤ ِن َسا ُت أو الـ ُم ْيئِ َسا ُت ،الـ ُم َح َّق َقا ُت خارج مدارات التصديق ..بيد أن لمونتين Michel
أو الـ ُم َخيَّلا ُت -لا َت ْح ُد ُث إلا لكي ُت ْر َوى ..لأجل de Montaigneفي المقابل من ذلك ،رأ ًيا مغاي ًرا،
إذ يقتبس عن دانتي Dante Alighieriفيقول:
هذا طالما تطلع أيو ُب إلى تثبيت قصته بالكتابة من «وحدهم الحمقى من يغلقون عقولهم مستسلمين
أجل أن ُت ْر َوى؛ يقولَ « :م ْن يمكنه أن يضمن لي أن ليقينهم» .ثم يواصل «إن متعتي في الشك لا تقل عن
كلماتي س ُت ْك َتب ،من يتيح لي أن كلماتي ُتو َدع في متعتي في اليقين»( .)13أما كاسندرا فما تزال نبوءا ُتها
كتاب إلى الأبد بقلم من حديد ،وتنقر على الرصاص المشكو ُك فيها َح َّد اليقين -بعد إذ صار ما جناه
أخوها باريس على الأهالي والعمران شاه َد استدلال،
أو على الصخر»(َ .)19ت ْثبي ُت الذاكرة على صفحات وبات سقوط طروادة تجرب َة اختبار -تتلقى اللعنا ِت
كتاب أو على ألواح من طين أو على الصخر أو على مصبوب ًة من أفواه البصق والإزراء والتنقيص ،إلى
أن َي َت َف َّط َن بالاعتبار و َي َت َنبَّ َه بالإصغاء ك ُّل من «كان
عظم حيوان أو على رق غزال ،كان حل َم الإنسان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد»( .)14ح ًّقا ،إن
منذ فجر البشرية .في نص –لا شك منحول-
البوح الشفيف لا يتلقفه إلا سم ٌع رهيف.
بعنوان َ Life of Adam and Eveت ْطل ُب حواء من
ابنها شيث Sethأن يكتب سيرتها وسيرة أبيه -2أيوب والكلمات المداويات:
آدم ،قائلة« :أ ْي بني ،أصغ إل َّي؛ عليك بصنع ألواح في إحدى الروايات التوراتية ،يتذكر أيو ُب المبت َل
من الحجر وأخرى من الطين ،ثم َد ِّو ْن عليها حياتي الأيا َم التي كان مغمو ًرا فيها بأفضال الخالق،
وحيا َة أبيك كاملتين ،و ُق ْل ك َّل ما رأيته وسمعته حينئذ كان الإله يضيء سرا ًجا على رأسه ،وبنوره
منَّا .وإذا ما كان الرب سيحاسبنا بالماء ،فلسوف يسلك في الظلمة ..يقول أيوب« :لِـي َسم َع الشيو ُخ
تذوب ألوا ُح الطين ،فيما ستنجو ألوا ُح الحجر .أما بانتباه ،وصمتوا عند مشورتي ،ولم يضيفوا شيئًا
إذا كان الحسا ُب بالنار ،فستنكسر الألوا ُح الحجري ُة إلى كلامي ،وكانوا مسرورين ج ًّدا عندما أُ َكلِّ ُم ُه ْم.
و ُتش َوى الطيني ُة لتغدو أقوى»( .)20في كلتا الحالتين،
لن تضيع التجرب ُة سواء أكانت ُم ْؤ ِن َس ًة أم ُم ْيئِ َس ًة، وكأرض عطشانة تنتظر المطر؛ هكذا كان هؤلاء
ُمـ َح َّق َق ًة أم ُمـ َخيَّ َل ًة .وفي قصة «الآخر» يستعيد
خورخي لويس بورخيس Jorge Luis Borges
ذكرى لقائه مع «أناه الأخرى» أو قرينه الخيالي؛
يقول «حدث ذلك في كامريدج ،في شباط .1969