Page 11 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 11

‫إبداع ومبدعون ‪9‬‬
                         ‫رؤى نقدية‬

‫خورخي لويس بورخيش‬                   ‫ألبرتو مانغويل‬         ‫في حاضرهم‪ ،‬والمخبوء من مجاهل مستقبلهم‪.‬‬
                                                            ‫لكنها تدللت وتمنعت على‪ ‬ولي نعمتها‪ ،‬وقابلت‬
    ‫كاسندرا المكنات‪ .‬لكن هيهات! ما أوه َن الكلما ِت‬    ‫و َلـ َه ُه بال ُّصدود‪ ،‬ونصبت في طريق َت َع ُّش ِقه الموان َع‬
                   ‫حين يصيح بها صو ٌت كسيح!‬             ‫وال ُّسدود‪ .‬ولما نفد صب ُر أبوللو وضاق بها ذر ًعا‪،‬‬
                                                         ‫َص َّب جا َّم غضبه عليها‪« ،‬وتقول بعض الروايات‬
  ‫تتأتى اللعنة إلى كاسندرا لا من وهن الإقناع‪ ،‬ولا‬        ‫إنه في أثناء المعاشرة الأخيرة بصق في فمها(‪،»)5‬‬
   ‫من عنفها النبوئي الذي يعتم «فحص الإمكانات»‬              ‫وسلط عليها سخرية سامعيها‪ ،‬حتى إذا قالت‬
‫ويخفض قيمة «ذهب الممكن»‪ ،‬وفق ما قرر غاستون‬            ‫شيئًا‪ ،‬أو تنبأت بغيب‪ ،‬أو استبصرت أو استكشفت‬
                                                           ‫أو استشرفت على مستور‪ ،‬استهزأ بها الناس‪،‬‬
     ‫باشلار‪ ،‬ولا من جهة التطلع الملحاح إلى تحقق‬             ‫وعيروها بأنها تكذب و َت َّدعي و َتـ ْه ِر ُف بما لا‬
  ‫رؤاها الاستشرافية المأساوية بدافع إثبات غرور‬
 ‫المعرفة‪ ،‬بل من جهة التواضع َح َّد الضع ِف العاج ِز‬                                           ‫َت ْع ِرف‪.‬‬
 ‫عن منع الكارثة‪ ،‬فلا تجد بإزائه إلا البو َح الشفي َف‬     ‫وليس يخفى على قراء إلياذة هوميروس وإنياذة‬
                                                         ‫فيرجيلوس ما لاقته البئيسة كاسندرا بعد عودة‬
     ‫الذي لا يلاقي آذانا صاغية‪ ،‬فيؤول إلى مجرد‬
    ‫حشرجات روح مبحوحة معذبة منبوذة‪ .‬يقول‬                    ‫أخيها باريس ‪ Pâris‬مستهد ًيا بإرشادات ربة‬
    ‫ألبرتو مانغويل ‪« :Alberto Manguel‬نعلم أن‬               ‫الحسن والجمال «فينوس» ‪ Venus‬إلى موطنه‬
‫وظيفة المبدع الجوهرية هي أن ُي َن ِّور‪ ،‬وأن يحرضنا‬
‫دو ًما كقراء على أن نعيد تعريف اعتقاداتنا‪ ،‬ونوسع‬              ‫وكريم أرومته‪ ،‬إذ خر المل ُك وأهله ساجدين‬
  ‫تعريفاتنا‪ ،‬ونسائل إجاباتنا‪ .‬ولكن في الوقت ذاته‪،‬‬      ‫شاكرين إلا هي‪ ..‬فلقد َر َم َق ْت أخاها بنظرة كالحة‪،‬‬
‫وخو ًفا من التفتت والاضطراب‪ ،‬نحاول خفض دور‬             ‫ثم صاح ْت في وجه أبيها الملك‪« :‬ابنك يجر الخراب‬
‫المبدع إلى منزلة حكواتي الخرافات‪ ،‬مساوين الأدب‬
 ‫بالأكاذيب‪ ،‬ومقارنين بين الفن والواقع السياسي‪،‬‬             ‫على طروادة‪ ،‬ويعرض شعبها للإبادة‪ ،‬وينشر‬
                                                      ‫الموت الأسود في كل البيوت»‪ .‬فتضاحك الملك بريام‬
                ‫باصقين فعليًّا في فم كاسندرا»(‪.)9‬‬
  ‫نرجح أن زفرات نفس كاسندرا كانت قد تواردت‬                  ‫مستهز ًئا‪ ،‬وغمزت الملك ُة ابن َتها‪ ،‬ولمزتها بكلام‬
                                                          ‫قارص‪ .‬أما العتي هكتور ‪ Hector‬فقد استخف‬
     ‫إلى أذن ألفريد دوبلن ‪ Alfred Döblin‬صاحب‬            ‫بكلمات أخته وأهانها‪« :‬مأفون ٌة أنت يا كاسندرا»!‬
                                                          ‫وكذلك كان من الحاشية وجموع المقربين‪ .‬كما‬
                                                         ‫لا يخفى اصطفاف كاسندرا(‪ )6‬إلى جانب القديس‬
                                                      ‫لاوكون(‪ Laocoon )7‬في نبوءة ليل السقوط المعلوم‪،‬‬
                                                        ‫حين تنبهت إلى كيد الهيلانيين أعداء طروادة‪ ،‬وما‬
                                                         ‫دبره الماكر أوديسيوس ‪ Odysseus‬خلف حيلة‬
                                                        ‫الحصان المشؤوم‪ .‬لكن «من يصدق كاسندرا ولا‬
                                                        ‫تزال نقمة أبوللو تنصب فوق رأسها‪ ..‬وقد جعلها‬

                                                            ‫عرض ًة لكل مستهزئ‪ ،‬وأضحوكة لكل ساخر‬
                                                             ‫ل َّعاب؟»(‪ .)8‬أما بعد الكلمات الواهنات التي لم‬
                                                        ‫تصادف من يتلقاها بالإنصات‪ ،‬فقد صار جليًّا ما‬
                                                      ‫آلت إليه أبرا ُج طروادة الشامخا ُت وأعاليها وأهاليها‬
                                                         ‫بعد سنوا ٍت عش ٍر كالحا ٍت من نقمة «أغاممنون»‬
                                                           ‫‪ Agamemnon‬وغضبا ِت «أخيل» ‪Akhilleús‬‬
                                                       ‫المحتدما ِت على ما اقترفته يدا باريس رفقة الخائنة‬
                                                        ‫الهاربة هيلينا ‪ ..Hélène‬ألا تبت يداك يا باريس!‬
                                                          ‫بعد كل ذاك الخراب‪ ..‬هذا ما تستضمره كلمات‬
   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16