Page 15 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 15
13 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
كان دانتي قد تأهب لمواجهة رعب ذلك الشوط التي تقول« :لا تسأل عن الطريق من يعرفه ،لأنك
الطويل وكل المشاهد المحزنة التي ستسردها إذا ما فعلت ،لن تكون قاد ًرا على الضياع»(.)30
الذاكرة بلا نقصان ،وما كان يملك آنئذ من زاد بع ُض مصادفات الضياع تجعل مجاهيل الطريق
إلا الاستئناس بثقة تكاد تكون مطلقة في مرشده تبوح بأسرار الحياة .ومن ِن َع ِم الرياح التي ضاع
فيرجيليوس؛ إذ ناداه« :فلتتزل الآن إلى الكون في حمأتها أوديسيوس وإيناس َت َع َل ْم َنا -نحن
الأعمى ،سأكون أنا الأول ،وستتبعني»( .)34أجاب القراء -كيف «نحب الوطن والزوجة والأب،
دانتي« :أيها الشاعر ،يا مرشدي! انظر إن كانت وكيف نبحر صوب تلك الأشياء المشرفة في خضم
قوتي كافية ،قبل أن تبعثني في هذا الشوط المرير». العواصف»( .)31حين تبوح المسال ُك المجهول ُة ببعض
وما إن وعده المرش ُد بكلما ٍت متوسمات ،حتى صاح أسرارها ،لا نكون قد أضعنا الطريق ،بل نكون قد
اكتشفنا مسالك غير موطوءة في دروب النجاة.
دانتي« :وكمثلما تضيء الشمس زهرة منكسة في رواية «الحارس في حقل الشوفان» لصاحبها
َأ ْط َب َق أورا َقها الثل ُج المسائ ُّي ،فتشرئب حول غصنها جيروم ديفيد سالينجر ،J. D. Salingerيؤيد بطل
الرواية هولدن كولفيد Holden Caulfieldذلك
متفتح ًة ،فهكذا انبثق ْت من َخ َو ٍر قواي ،و َس َر ْت ف َّي بالقول« :أحب عندما ينحرف أحد ما عن الطريق.
شجاع ٌة عظيمة ،فجعل ُت أتكلم كإنسان متحرر».
بعدئذ ،قال لأستاذه فيرجيليوس« :هيا إلى السير، فهنا تكمن الإثارة»(.)32
ستكون لنا مشيئة واحدة ،وستكون أنت مرشدي
وأستاذي وسيدي»( .)35وما إن شرع فيرجيليوس -4صوت الشاعر ب َو ٌح و َلـ ْمح:
بالمسير ،حتى انتهج دانتي الطريق الوعرة القاسية
بعد أن هرم بورخيس وخاب أمله بشأن العالم،
محتذ ًيا حذو مرشده وأستاذه وسيده ..حتى وصف دور المبدع -في «يوتوبيا سويفتية» -1970
إذا وصلا إلى مدخل مدينة الآلام (في الأنشودة
الثالثة) ،قرأ دانتي على بابها الكلمات الدكناء التالية: بهذه السمات« :الشعراء رمز آخر ضمن القبيلة.
«ع ْبري يذهب السائرون إلى مدينة العذاب ،عبري يقرر إنسا ٌن َر ْص َف ِس ِّت أو سبع كلمات مقفاة؛
يذهبون إلى الألم الأبدي ،عبري يذهبون بين القوم يعجز عن كبح نفسه ف ُي ْج ِه ُر بها صار ًخا ،واق ًفا
الهالكين ( )..أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل».
استنكف دانتي عن المسير ،ونادى فيرجيليوس« :يا وسط دائرة مكونة من السحرة الأطباء ،فيما
أستاذي ،إن معناها لباهظ عليَّ» .أجاب المرشد ،وقد باقي الناس يستلقون على الأرض .إن لم تبهجهم
قرأ سوانح المسترشد« :ينبغي أن تتخلى هنا عن كل
القصيدة ،لا يحدث شيء ،ولكن إن أثرت فيهم
ريبة ،وينبغي أن يموت هنا كل خور»(.)36 كلمات القصيدة،
وبعد ،ما عاد يتردد على مسامع دانتي إلا تنه ٌد ينسحبون جميعهم
مبتعدين عنه بهدوء،
وبكا ٌء ونوا ٌح عا ٍل يتصادى هنالك في جو بلا
نجوم ،ولغا ٌت غريب ٌة ورطانا ٌت فظيع ٌة وصيحا ُت برهبة مقدسة.
أل ٍم وصرخا ُت غض ٍب يرافقها لط ٌم بالأيادي في ذلك يشعرون بأن الروح قد
مسته ،ولن يحدثه أحد
الأفق المظلم أب ًدا ككثيب رمل تعصف به زواب ُع
عاتية ..ومع كل ذلك ما فتئ دانتي يرهف السم َع أو ينظر إليه ،أو حتى
إلى أمه .إنه لم يعد
إلى مرشده فيرجيليوس .مدر ًكا أن الشعر َب ْو ٌح
و» َلـ ْم ٌح تكفي إشارته»( ،)38ومستوعبًا أنه لا يرهف إنسا ًنا بل إل ًها ،ويمكن
لأي شخص قتله»(.)33
السم َع لشاع ٍر إلا شاع ٌر مثله .فليس من شيم
الفضلاء تبكي ُت ال َب ْو ِح واللَّ ْم ِح بعدم الإصغاء ،أو في المقابل من ذلك،
وفي مستهل الأنشودة
البصق في فم الشعراء.
الثانية من الجحيم،