Page 19 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 19

‫‪17‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

‫فيه كثي ًرا وعرف وسطه اللذة‪ ،‬بعد أن غادر ‪-‬البحر‪-‬‬         ‫امرأة من قبل» (ص‪ )76‬أعتقد بان الروائي جعل من‬
‫رحمته واعتقد بأن قدرة ربانية هي التي لوحت له أو‬         ‫هذا المشهد السردي السريع والقصير‪ ،‬بؤرة استباقية‬
‫أرسلت من تكفل بذلك‪ ،‬ومن هنا كانت لحظة الخروج‬
                                                           ‫للعلاقة التي ستنشأ مع «أوكتيافيا» التي ستزعزع‬
   ‫من قبو الموت‪ /‬واللذة هي لحظة الدنو إلى الأنثى‪/‬‬       ‫القناعات الروحية‪ /‬الدينية لدى «هيبا»‪ ،‬ليس هذا فقط‪،‬‬
     ‫المرأة والتعرف عليها وإدراك ما يعنيه الاختلاف‬
                          ‫الثقافي والتباين الديني‪.‬‬         ‫بل سيمارس خد ًشا قو ًّيا‪ ،‬وقاسيًا في الرهينة أو ًل‪،‬‬
     ‫هذه اللحظة الزمنية لها علاقة بالمكان‪ ،‬وهذا أمر‬         ‫وستبدأ في أعماقه بذرة العودة للماضي‪ /‬الوثنية‪،‬‬
                                                           ‫وهو كثي ًرا ما يتذكرها وتطوف مع أفكارها الدينية‬
  ‫معروف عن ثنائية الزمان والمكان‪ .‬والمكان المقصود‬
‫هو البحر والشاطئ وما يفضيان إليه من أمكنة أخرى‬                                         ‫وتأملاته الحياتية‪.‬‬
‫وحكايات مرتبطة بها‪ ،‬هذه الأمكنة المغايرة عن المكان‬        ‫البحر بؤرة هذه الرواية وإن لم يستمر طوي ًل فيها‪،‬‬

   ‫المألوف بالنسبة لهيبا والذي عرفه بعد الرهبنة أنه‬            ‫لكنه ظل مستم ًرا في داخلها مع كل التساؤلات‬
 ‫مرتبط بالكنيسة والأديرة‪ .‬والمثير للملاحظة هو بقاء‬            ‫الميتافيزيقية‪ ،‬ورؤاه الكونية وعلاقته مع يسوع‬
  ‫الأمكنة التي كانت قبل المسيحية «بمعنى لها وظيفة‬          ‫المسيح‪ .‬ظلت الأسئلة كثيرة ج ًّدا وكافية في روايته‪،‬‬
‫دينية وثنية»‪ ،‬وفي المسيحية تغيرت صفة الأماكن من‬          ‫مثيرة مخاوفه وارتياباته‪ ،‬وهي ‪-‬الأسئلة‪ -‬من النوع‬
                                                              ‫الذي تستولده الحيرة والخوف‪ ،‬القلق والعلاقة‬
   ‫وثنية إلى توحيدية‪ ،‬لقد تغيرت الثقافة وعناصرها‬            ‫مع الماضي‪ ،‬علاقة ليست آنية أو قصيرة‪ ،‬بل هي‬
   ‫الكلية المرتبطة مع المكان بعد حصول تحول ديني‪،‬‬          ‫متراكمات ثقافية‪ ،‬استقرت بالذاكرة وصاغت هوية‪،‬‬
                                                           ‫كانت حاضرة في الحياة‪ ،‬متمتعة بقوتها وفاعليتها‪،‬‬
     ‫واستمر هذا التحول حتى الإسلام حيث شهدت‬                  ‫ومتجاورة مع الديانة المسيحية الصاعدة لإزاحة‬
   ‫الأماكن تغي ًرا بالوظائف الثقافية‪ /‬والدينية فالمكان‬      ‫الوثنية‪ ،‬ومعتمدة على العنف الذي وجد له فرصة‬
                                                           ‫تستدعيه وترحب به‪ ،‬وصار العنف المقدس ظاهرة‬
    ‫الذي كان معب ًدا وثنيًّا شهد تحو ًل نحو المسيحية‬    ‫عامة لإزاحة ثقافة الآخر الوثني‪ ،‬وهذا ما عرفته مدينة‬
                                     ‫والإسلام‪.‬‬           ‫الإسكندرية‪ ،‬وكان المقدس لا يقوى على بقاء قدسيته‬

‫«نظرت إلى جهة الصوت مذعو ًرا‪ ،‬فرأيت امرأة بيضاء‬                                        ‫إلا من خلال الدم‪.‬‬
 ‫في ثوب سكندري مكشوف الصدر والذراعين‪ ،‬أقبلت‬              ‫ورأى هيبا وهو وسط صراعه المدمر مع أمواج البحر‬
                                                         ‫ي ًدا تومئ له أن يأتي‪ ،‬ويصل إلى اليابسة‪ ،‬اعتقد هيبا‬
      ‫المرأة متمايلة كأنها نجت ت ًّوا من الغرق في بحر‬   ‫بأن تلك التلويحات التي رآها بعيدة هي منقذة‪ ،‬لكنها‪:‬‬
                                        ‫الميوعة‪.‬‬        ‫«كفت عن التلويح‪ ،‬وغاب عن عيني لما حال بيننا الموج‪،‬‬
                                                          ‫كنت قد أنهكت تما ًما وكان البحر لا يرحم‪ ،‬لما تيقنت‬
               ‫‪ -‬أنت سباح ماهر‪ ،‬ومحظوظ أي ًضا‪.‬‬           ‫من أنني أغرق صحت رغ ًما عني‪ ،‬ثم كتمت صيحاتي‬
                            ‫‪ -‬من أنت يا سيدتي‪.‬‬           ‫لأستعين بما تبقى من قوتي على الرجوع»‪( .‬ص‪)77‬‬

 ‫‪ -‬سيدتي‪ ..‬هاها‪ ،‬أنا أوكتافيا خادمة السيد الصقلي‪،‬‬            ‫وبعد وصوله إلى الشاطئ حام ًل رعشة الملامسة‬
                         ‫تاجر الحرير»‪( .‬ص‪)78‬‬              ‫ولذة الدغدغة‪ ،‬أدرك بأن اليد التي لوحت له‪ ،‬لم تكن‬
                                                           ‫لشخص ما‪ ،‬بعدما لم يجد أم ًل على الشاطئ الرملي‬
‫«كانت كاهنة الإله بوسيدون‪ /‬إله البحر والتي عاشت‬
     ‫معها فترة‪ ،‬قالت لها قبل وفاتها بأيام وبصوت‬             ‫الممتد‪« :‬ظن لوهلة أن الذي كان يلوح لي منب ًها من‬
    ‫ممتلئ بالصدق الكهنوتي‪ :‬يا أوكتافيا لا تحزني‪،‬‬        ‫خطر الغرق‪ ،‬لم يكن من البشر‪ ،‬وإنما هو ملاك أرسله‬
                                                         ‫الله من السماء‪ ،‬لينقذني من التوغل في غواياتي‪ .‬قلت‬
‫سوف يرسل الإله بوسيدون من البحر‪ ،‬رج ًل تحبينه‬
     ‫ويحبك‪ ،‬يمسح عنك دمعك‪ ،‬ويملأ أيامك بالفرح‪،‬‬            ‫في نفسي أن أبانا الذي في السماوات رحيم بنا‪ ،‬وأن‬
                  ‫سيأتيك بعد علامتين»‪( .‬ص‪)93‬‬              ‫أسراره في الوجود لا تنتهي‪ .‬وأنني لن أقرب البحر‬
        ‫كان هيبا هو رجل النبوءة التي قالتها كاهنة‬          ‫من بعد ذلك أب ًدا»‪( .‬ص‪ )78‬غادر البحر الذي تمتع‬

 ‫بوسيدون‪ ،‬وكان اللقاء مده ًشا بالنسبة لهيبا ومثي ًرا‬
  ‫لأوكتافيا لأنه له حلم حققه إله البحر الذي كان من‬
  ‫الممكن أن يميت هيبا ويستعيده رحم الأم الكبرى‪/‬‬
   ‫البحر‪ ،‬لكنه ‪-‬الإله‪ -‬أنقذ هيبا‪ ،‬والإنقاذ كاشف عن‬
   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24