Page 22 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 22

‫العـدد ‪31‬‬   ‫‪20‬‬

                                                         ‫يوليو ‪٢٠٢1‬‬

    ‫استطاعت طرده بعدما حاورته حول الزواج‪ .‬هيبا‬               ‫بالنسبة للعقيدة المسيحية فيما بعد‪ ،‬والسكر الذي‬
 ‫هو الذي أشبع جوع جسدها‪ ،‬وهو كان أي ًضا بحاجة‬               ‫ينشدونه هو حالة «الوجد» والاتحاد مع الله‪ .‬وهم‬
‫للمرأة‪ .‬للجسد الفياض بالشهوة واللذائذ‪ ،‬وقدم ما هو‬         ‫يعتقدون أنهم بهذه الطريقة يحصلون على ضرب من‬
‫غير معروف بالنسبة له حتى صار مجنو ًنا بأوكتافيا‪.‬‬            ‫المعرفة الصوفية لا يمكن الحصول عليها بالوسائل‬
  ‫عندما وجد نفسه خارج البيت التجأ إلى المغارة التي‬            ‫المألوفة‪ ،‬ولا يشك أن هذا قد تسرب فيما بعد إلى‬
                                                             ‫اللاهوت المسيحي‪( .‬برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة‬
      ‫التقيا بها أول مرة‪ ،‬وفي هذه اللحظة التي جاءته‬
   ‫الصحوة الدينية التي تجاهلها‪ ،‬لم يجد غير الصلاة‬              ‫الغربية‪ ،‬القاهرة‪ ،1954 ،‬نق ًل عن عدنان حسين‬
                                                          ‫العوادي‪ ،‬الشعر الصوفي‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬بغداد‪،1976 ،‬‬
      ‫والتوسل إلى الرب والابتهال إليه‪ ،‬كي يعفو عنه‬
   ‫ويرحمه مع أوكتافيا‪ .‬هذا وقع له بعد عشرين عا ًما‬                                               ‫ص‪)20‬‬
                                                                ‫لقد تحرر هيبا من طاقة الانجذاب نحو يسوع‬
     ‫من لحظة اللقاء الأول والفيضان الجنوني وطفح‬            ‫والمسيحية معتم ًدا على الآني‪ ،‬ولم يكن مخط ًطا لذلك‬
  ‫جسدها باللذة وتجددها‪« .‬هل وقع ذلك كله ح ًّقا قبل‬        ‫حيث لقاء أوكتافيا وشربه للخمر والاتصال الشهوي‬
                                                          ‫معها‪ ،‬وتحرر من ضوابط الرهبنة المسيحية‪ ،‬وانطوى‬
    ‫عشرين عا ًما؟ مالي أشعر به كأنه يحدث الآن‪ ..‬آه‬       ‫على دلالة التشارك مع الوثنية والطقوس الديونسيسية‬
   ‫يا أوكتافيا المسكينة‪ .‬لو كنت قد صبرت عليَّ قلي ًل‪.‬‬        ‫والباخوسية‪ ،‬وأي ًضا الأورفية‪ ،‬وفي سلوك الاثنين‬
   ‫ولو كنت أعرف ما يخبئه لي الزمان‪ ..‬أو‪ ..‬الآن‪ ..‬إن‬          ‫ما يمثل المتصوفة‪ .‬لذا كانت جلسات النبيذ تنتهي‬
   ‫يد ّي ترتجفان‪ .‬أوكتافيا الحبيبة المسكينة‪ ..‬ما عدت‬       ‫بطقس الجنس الذي عرفته الحضارات الشرقية‪ ،‬ولا‬
‫قاد ًرا على الكتابة»‪( .‬ص‪ )125‬أوكتافيا بموقفها قدمت‬            ‫شك أن الحب الجنسي قد غدا المجسد لهذا الحب‬
‫أنموذ ًجا مستق ًّرا ورصينًا‪ ،‬وهي أكثر وضو ًحا وتطاب ًقا‬   ‫المجرد الشامل‪ .‬لأنه أوضح شيء يعرفونه يتجلى فيه‬
    ‫مع قناعاتها الدينية‪ ،‬أكثر بكثير من هيبا المسيحي‬      ‫الاندماج والاتحاد والتآخي بين البشر‪( .‬لويس عوض‪،‬‬
   ‫الذي اعتنق الرهبنة التي لم تكن جديدة دينيًّا‪ ،‬فهي‬       ‫الفنون والجنون‪ ،‬كتاب الهلال‪ ،‬يناير ‪ 1970‬نق ًل عن‬
    ‫ذات أصول مصرية معروفة‪ ،‬حتى المسيحية التي‬                  ‫عدنان حسين العوادي‪ ،‬الشعر الصوفي‪ ،‬ص‪)15‬‬
‫كانت امتدا ًدا وتطو ًرا موضوعيًّا لديانة الإله أوزيريس‪.‬‬          ‫وأعتقد بأن تناول هيبا للنبيذ فيه استذكار أو‬
   ‫قدمت أوكتافيا جسدها قربا ًنا وتضامنًا مع أستاذة‬              ‫استحضار للسيد المسيح لحظة فدائه من أجل‬
                                                          ‫البشر‪ .‬ولم يعلن الراهب هيبا بأن النبيذ الذي يتناوله‬
                                     ‫الزمن هيبا‪.‬‬            ‫يوميًّا من النوع المحرر للإنسان المؤمن من يومياته‬
    ‫لقد رأى هيبا بعينيه ما حصل لأوكتافيا من عنف‬           ‫وشطحاته‪ ،‬ولا كان النبيذ ضمن فضاء مقدس‪ ،‬حتى‬
   ‫وقسوة لا تستحقها ولا يجوز أن تكون نهاية ذاك‬             ‫يومئ لمن جعل منه جز ًءا حيًّا ومه ًّما من طقس ليلته‬
                                                             ‫الأخيرة‪ .‬ولكني لا أستطيع تجاهل العلاقة القائمة‬
        ‫الجسد بالطريقة التي تعامل معه المسيحيون‪.‬‬               ‫بين المسيحي والنبيذ‪ ،‬لأن النبيذ دال على القيمة‬
            ‫خمد جسدها بعدما كانت «لا تهدأ أب ًدا»‪.‬‬           ‫الرمزية العالية التي يفضي اليها وعلاقتها مع دم‬
                                                           ‫السيد المسيح‪ .‬وتناول هيبا للنبيذ لا يعبر عن علاقة‬
   ‫كره هيبا البحر لأنه مرتبط مع مدينة العنف‪ ،‬البحر‬           ‫مباشرة مع العادي‪ ،‬وإنما هي محاولة للتماثل مع‬
   ‫الذي أخذه نحو خلاص توقعته الكاهنة قبل وفاتها‬            ‫نقيمة اليسوعية التي صارت در ًسا إنسانيًّا في رؤية‬
 ‫عندما قالت لأوكتافيا بأن حلمها يتحقق بعد علامتين‬          ‫النبيذ‪ ،‬وتناوله يذكر بالفادي والتضحية التي جعلت‬
    ‫أي بعد يومين أو أسبوعين أو شهرين أو سنتين‪.‬‬              ‫منها المسيحية اختزالية‪ ،‬وكفت فدية يسوع لحياته‬
 ‫عرف بعد الذي حصل بأنه لا يحب البحر‪ ،‬النيل أحلى‬
   ‫منه وأرحم «النيل يجلب إلى ضفتيه الحياة والبحر‬                                     ‫تضحيات بني البشر‪.‬‬
                                                               ‫غادر للأبد مطرو ًدا من أوكتافيا التي استجابت‬
     ‫يزيح عن شواطئه كل ما أخضر‪ ،‬فلا يجاوره إلا‬                ‫له جسد ًّيا‪ ،‬ولو كانت علاقتها معه حبًّا وهيا ًما لما‬
  ‫الصخور‪ ،‬الإسكندرية مدينة البحر والصخر‪ ،‬مدينة‬
  ‫للملح والقسوة‪ ..‬ساعة العصر خطرت بذهني فكرة‬

     ‫جامحة‪ ،‬رأيت أنها قد تؤكد توبتي‪ ،‬وتقربني من‬
  ‫جوهر الطهارة التي أهدرتها‪ ..‬وسوف أتفرد بها عن‬
  ‫أهل زماني‪ ،‬فأصبر ممي ًزا بينهم‪ ،‬فلن يقدر أحد على‬
   17   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27