Page 128 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 128

‫القديم‪ ،‬وقد عرف بسفرات إلى‬        ‫الحلاج لم يلتزم بتعاليم التصوف المعروفة‬
‫الهند والصين‪ ،‬ومن خلالها تشبع‬           ‫‪-‬كما بينها القشيري في رسالته‪ -‬والتي‬
‫بالتصورات الغنوصية التي تشكل‬
                                      ‫تتجلى في ضرورة تأدب المريد مع شيخه‪،‬‬
   ‫جز ًءا من تحركاته الفكرية على‬            ‫والاعتقاد بأن "من لم يكن له أستاذ‬
    ‫أرض الواقع‪ .‬وهذا كله يشكل‬             ‫لا يفلح أب ًدا؟" و"من لم يكن له أستاذ‬
‫خطورة على السلطة العباسية‪ ،‬مما‬
  ‫دفعها إلى اتخاذ قرار البحث عن‬        ‫فإمامه الشيطان" و"أن الشجرة إذا نبتت‬
 ‫الحلاج الذي اختفى عن الأنظار‪.‬‬        ‫بنفسها من غير غارس‪ ،‬فإنها تورق لكن‬
    ‫سجن الحلاج عندما وقع بين‬          ‫لا تثمر‪ ،‬كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ‬
                                      ‫يأخذ منه طريقته نف ًسا نف ًسا‪ ،‬فهو عابد‬
      ‫أيدي السلطة العباسية سنة‬
    ‫(‪301‬ه)‪ ،‬وبقي ثماني سنوات‬                                  ‫هواه لا يجد نفا ًذا"‪.‬‬
   ‫بتهمة أنه أحد القرامطة «أعداء‬
   ‫الخلافة العباسية»‪ ،‬ومن التهم‬      ‫المؤسسة الدينية الرسمية (السلطة‬      ‫الأوضاع التي عاصرها الحلاج‬
 ‫الأخرى الموجهة إليه أي ًضا اعتقاد‬         ‫العباسية) تعبي ًرا عن موقف‬       ‫عمو ًما لم تكن هادئة بل كانت‬
   ‫طلابه بألوهيته‪ ،‬بينما هو يرى‬
     ‫أن لا ذنب له في ذلك‪ ،‬وقوله‬       ‫علني‪ ،‬ولم يكن هذا عبثًا بل كانت‬     ‫عصيبة‪ ،‬وهي في يقيني لا تخفي‬
  ‫«أنا الحق»‪ ،‬ورؤيته المخصوصة‬           ‫منطلقاته مبنية على تصوراتهم‬            ‫تأثيراتها على فكر الحلاج‪.‬‬
  ‫لفريضة الحج‪ ،‬وهناك من يرى‬                 ‫تجاه معاني الحق والعدالة‬          ‫بسبب الصراعات الداخلية‬
 ‫أنها السبب المباشر الذي أدين به‬          ‫والإنسان‪ .‬وقد كانت السلطة‬             ‫والخارجية م ًعا‪ ،‬فقد بدت‬
                                       ‫العباسية ترى الخطر الداهم من‬
                 ‫الحلاج وأعدم‪.‬‬                                           ‫الخلافة الإسلامية ضعيفة‪ ،‬حيث‬
‫في سنة ‪309‬ه نودي على الحلاج‬          ‫الداخل في الحركات الصوفية ذات‬          ‫دبت الصراعات بين أطرافها‪،‬‬
                                         ‫الأفكار الغنوصية والعرفانية‪،‬‬         ‫فظهرت ثورة الزنج ‪255‬ه‪،‬‬
   ‫بأنه أحد القرامطة‪ ،‬وسعى إلى‬
 ‫تقديم نفسه ضحية عن الآخرين‪،‬‬           ‫والتي كانت تجذب إليها الفقراء‪،‬‬    ‫وحركة القرامطة ‪-‬نسبة إلى أحد‬
                                       ‫والمهمشين والطبقات التي تؤمن‬         ‫دعاتهم حمدان قرمط أسسوا‬
    ‫ومن أجل خلاصهم‪ ،‬كما قال‬
 ‫«تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي‬              ‫بضرورة الثورة على الأوضاع‬         ‫لهم دولة في البحرين‪ -‬المنسلخة‬
                                        ‫السيئة لإحداث التغيير الموافق‬      ‫من الإسماعيلية (مذهب‪ ،‬نسبة‬
     ‫ودمي»‪ .‬وعلى الصليب أهدى‬                                                ‫إلى الإمام إسماعيل بن الإمام‬
   ‫مهجته ودمه‪ ،‬كما طلب المغفرة‬                               ‫لآمالها‪.‬‬    ‫الصادق)‪ ،‬وعلى إثر ذلك تأسست‬
   ‫لقاتليه‪ ،‬حيث قال «قد اجتمعوا‬           ‫فهذه الطبقات الفقيرة تروم‬
 ‫لقتلي تعصبًا لدينك‪ ،‬وتقر ًبا إليك‪،‬‬     ‫المصلحة الاجتماعية في التغيير‬          ‫دويلات لا تخضع للسلطة‬
  ‫فاغفر لهم‪ ،‬فإنك لو كشفت لهم‬        ‫السياسي‪ ،‬لتجاوز عمليًّا أوضاعها‬       ‫العباسية‪ ،‬وهذا ما يثير غضبها‬
  ‫ما كشفت لي َ َلا َفعلوا»‪ .‬ومن ثم‬         ‫المزرية‪ ،‬وقد كان موقع آراء‬
 ‫صلب أو ًل تشهي ًرا به‪ ،‬وكان هذا‬          ‫الحلاج وتصوراته ف َّعا ًل‪ ،‬في‬                      ‫بلا هوادة‪.‬‬
 ‫الصلب التمثيلي يستهدف إهانته‪،‬‬           ‫خضم هذا الصراع السياسي‬          ‫صحيح أن التصوف بدأ بتجارب‬
 ‫وكسر همته‪ ،‬بعد أن ضرب ألف‬               ‫والديني المحتدم‪ .‬والملاحظ أن‬
  ‫سوط‪ ،‬وقطعت يداه ورجلاه ثم‬             ‫فكر الحلاج يستمد فاعليته من‬         ‫فردية ومتفرقة‪ ،‬لكنه سرعان‬
‫قطع رأسه‪ ،‬وأحرقت جثته بفتوى‬             ‫الأوساط الهرمسية الغنوصية‪،‬‬            ‫ما انتظم في حلقات جماعية‬
‫من القضاة الذين حاكموه‪ ،‬وهكذا‬           ‫ورواد دعوات الفكر الروحاني‬
    ‫انتهت حياة الحلاج‪ ،‬بعد قتله‬                                          ‫متعددة‪ ،‬تحمل مواقف تجاه أمور‬
    ‫بسيفين‪ :‬سيف الدين وسيف‬                                                  ‫الدين والسياسة‪ .‬وهكذا أعلن‬
                                                                            ‫المتصوفة ابتعادهم عن محيط‬
                       ‫السياسة‬
   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132   133