Page 95 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫خلعت حذائي كي لا يكسر صوت احتكاكه بالأرض‬                ‫بالنسبة له! الأوراق أو ًل وأخي ًرا والرحمة على‬
‫ذلك السكون البارد‪ .‬كلما اقتربت من العنبر ازدادت‬                                    ‫أرواح المختلفين‪.‬‬

    ‫رائحة الدم في أنفي‪ .‬لقد ذهبت رائحة المنظفات‬    ‫إدريس أو كما يسمي نفسه إدريس التعيس‪ ،‬حرفته‬
            ‫والسجائر‪ ،‬الآن لا شيء سوى الدماء‪.‬‬        ‫كتابة القصص القصيرة والطويلة أحيا ًنا‪ ،‬خطيئته‬
                                                         ‫بين البشر أنه حاول الانتحار عشرات المرات‪،‬‬
    ‫ما إن اقتربت حتى وجدت الدماء تملأ الأرضية‬        ‫اكتشف أحد جيرانه محاولاته الفاشلة‪ ،‬وأبلغ عنه‬
    ‫والجدران الصفراء الكئيبة‪ ،‬وعزيزة‪ ،‬وإدريس‪،‬‬            ‫ورموه هنا‪ ،‬الناس هم السبب في كل عذاباته‪.‬‬
‫ومعهم عبده جالسين بملابسهم سكرية اللون وقد‬           ‫قال لي في أحد المرات «لم اختر وجهي ولا جسدي‬
‫لطخت بالدماء‪ ،‬عيونهم فارغة‪ ،‬يهمهمون ويحدقون‬        ‫لم اختر أن أولد قبي ًحا‪ ،‬بجسد ضئيل غير متناسق‪،‬‬
‫بوجه لا ملامح له في جثث الرجال أصحاب الملابس‬          ‫لقد حاولت جعل كتاباتي جميلة و روحي حلوة‪،‬‬
  ‫السوداء الملقاة على الأرض‪ ،‬تحولت همهماتهم إلى‬       ‫ولكنهم تجاهلوا كل هذا ونظروا إلى وجهي فقط‪،‬‬
   ‫أصوات واضحة «الموت قادم كيف السبيل»‪ ،‬هذا‬              ‫قال لي أحدهم مره «إنه تم تجميع قبح الدنيا‬
 ‫ما قالوه مرا ًرا وتكرا ًرا‪ ،‬حتى الساكت تكلم وصار‬   ‫ووضعه في وجهك‪ ،‬يبدو أنه يكرهك وإلا لما أعطاك‬
     ‫يردد معهم‪ ،‬صوته ناعم على عكس هيئته لكنه‬          ‫هيئة قرد»‪ ،‬كان يدعوه بعض الممرضين «إدريس‬
    ‫غاضب وعيناه يتطاير منهما الشرر وينظر إل َّي‪.‬‬      ‫ابن إبليس»‪ ،‬رغم ذلك زعم بعضهم أن إبليس لن‬
   ‫بدأت الجملة التي يرددها كل واحد منهم تصبح‬                                  ‫يكون في ربع قباحته!‬
                                                       ‫«الساكت» أو عبده ساب ًقا والذي اختار أن يبقى‬
         ‫مسموعة على نحو مخيف يوحي بالتوعد‪.‬‬             ‫صامتًا مهما حدث‪ ،‬حاول في إحدى المرات قطع‬
      ‫ابتعدت عن العنبر‪ ،‬آخر ما شاهدته كانت تلك‬      ‫لسانه فادخلوه إلى هنا‪ ،‬لا يعرف أحد سبب صمته‬
     ‫السيوف التي أمسكوا بها وما زالوا يرددون‬
                                                   ‫وإلى متى سيظل هكذا‪ ،‬ما يعرفه هو جي ًدا أن لكلامه‬
         ‫جملتهم بعزيمة وقسوة ومن تحتهم جثث‬         ‫عواقب‪ ،‬لا أذكر الكثير عن حياته الآن‪ ،‬عقلي مشوش‬
                                     ‫السفاحين‪.‬‬
                                                                                          ‫بالكامل‪.‬‬
   ‫لا يزال الممر خارج العنبر رقم خمسة هادئ‪ ،‬لن‬        ‫الحركة اختفت تقريبًا في الممر الرئيسي للمشفى‪،‬‬
   ‫يتخيل أحد هنا أو في أي مكان‪ ،‬أن المختلفين لم‬
‫ُيقتلوا بعد‪ ،‬بل تحولوا إلى قتله‪ ،‬ربما ينال تصرفهم‬        ‫الهواء ثقيل‪ ،‬لا وقت لتغيير أي شيء‪ ،‬التغيير‬
   ‫إعجاب المجتمع‪ ،‬إذ لم يصبحوا الآن مختلفين بل‬       ‫جريمة ولكن تجاهل ما سيحدث خطيئة لا تغتفر‪.‬‬

                                      ‫مجرمين!‬           ‫لقد حانت ساعة الصفر واختفى حارس الأمن‬
                             ‫هل هذا هو العلاج؟‬         ‫وجميع الأطباء والممرضين من الطابق الأرضي‬
      ‫ابتعدت بسرعة عن العنبر وخرجت من بوابة‬
          ‫المصحة مسرعة‪ ،‬أركض حافية القدمين‪.‬‬                            ‫حيث يوجد عنبر رقم خمسة‪.‬‬
 ‫لم أهتم بالزحام الذي يصيبني دو ًما بالغثيان‪ ،‬ولا‬       ‫دخل من البوابة الرئيسية ثلاثة رجال ضخام‬
    ‫بنظرات الناس الممتلئة بالسخرية والتعجب‪ ،‬ولا‬      ‫بملابس سوداء‪ ،‬لا يظهر من وجههم شيء سوى‬
   ‫بالسماء ذات اللون الكحلي الفاتح الذي لا نعرف‬    ‫أعينهم الفارغة‪ ،‬معهم سيوف‪ ،‬يعرفون ما سيفعلون‬
                            ‫غيره في هذه المدينة‪.‬‬    ‫جي ًدا‪ .‬اقتحموا العنبر واغلقوا الباب وراءهم‪ ،‬كل ما‬
    ‫أشار طفل نحيل الجسد‪ ،‬كبير الرأس إل َّي وقال‬     ‫أسمعه الآن هو أصوات الصراخ وقرقعة السيوف‬
 ‫بصوت عال «مجنونة»‪ ،‬ففي العادة لا توجد امرأة‬           ‫واصطدام الأسرة بالحائط‪ ،‬وبعد ثواني هدأ كل‬
 ‫تجري في الشارع حافية القدمين بشعر غير مرتب‬             ‫شيء‪ ،‬انقطعت الأصوات كلها‪ ،‬لحظات وانفتح‬
                          ‫وترتدي معط ًفا أبيض‪.‬‬           ‫الباب‪ ،‬لم يخرج أحد‪ ،‬ولم يكترث أي أحد من‬
  ‫نعم أنا في عيونهم مجنونة‪ ،‬كل مختلف عنهم هو‬        ‫العاملين في المصحة أو النزلاء بمتابعة الأمر وكأن‬

                                       ‫مجنون‪.‬‬                                       ‫لا شيء يحدث‪.‬‬
                                                   ‫همهمات غير مفهومة‪ ،‬اقتربت بحذر من العنبر وقد‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100