Page 37 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 37

‫‪35‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                                                     ‫د‪.‬نجاة علي‬

         ‫الكتابة بوصفها هوية‪..‬‬
‫في ديوان «الوداع في مثلث صغير»‬

  ‫يمكننا القول إن الهوية ليست شي ًئا جوهر ًّيا ثاب ًتا‪ ،‬بل هي ما يتحقق‬
   ‫بالزمان والمكان وفيهما‪ .‬ولربما كانت أقسى المحن التي عانت منها‬

    ‫الذات‪ ،‬والتي يطرحها علينا الديوان بقوة‪ ،‬هي محنة الاغتراب وقد‬
  ‫ظهرت في مستويات متعددة‪ ،‬فهناك الاغتراب السيكولوجي من حيث‬
‫هو انفصال عن الذات أو من حيث هو قطيعة مع أشكال التواصل كافة‪،‬‬

               ‫وهو مبعث الشعور الطاغي بالوحدة التي تحدث ُت عنه‪.‬‬

     ‫عناوين القصائد مثل‪« :‬أتقدم في البيت»‪« ،‬رأى‬       ‫ُينظر إلى الشاعر المصري أحمد يماني باعتباره‬
‫بيتا»‪ »،‬بيت البحر»‪« ،‬قرب البيت»‪« ،‬نوافذ البيوت»‪،‬‬
                                                       ‫واح ًدا من أهم الأصوات الشعرية المتميزة في جيل‬
    ‫«معاملة البيت»‪ .‬ونكتشف عبر القراءة أن البيت‬         ‫التسعينيات‪ ،‬وقد صدر له مؤخ ًرا ديوان «الوداع‬
 ‫الذي تتحدث عنه القصائد ليس بيتًا حقيقيًّا بالمرة‪،‬‬    ‫في مثلث صغير» في طبعتين‪ ،‬الأولى عن دار ميريت‬
 ‫بل مجاز ًّيا أو متخي ًل على الأرجح؛ فهو أشبه بعالم‬
‫خاص أو كون صغير تحيا به الذات‪ ،‬يمكن التعامل‬                                  ‫والثانية عن دار المتوسط‪.‬‬
 ‫معه باستعارة مركزية بالديوان‪ ،‬فمنه تبدأ أو تمر‬        ‫وعلى الرغم من محاولات التمويه التي استخدمها‬
  ‫كل الأحداث‪ ،‬وهو أي ًضا الشرفة التي تراقب منها‬      ‫الشاعر في كلمات الإهداء لصديقه الشاعر والمترجم‬
                                                      ‫كاظم جهاد‪« :‬لا رغبة لد ّي في سرد أهوال الرحلة»‪.‬‬
     ‫الذات الشاعرة العالم‪ ،‬و تراقب ذاتها المنقسمة‬
 ‫والمغتربة وتتأمل ‪-‬في الوقت ذاته‪ -‬عجز الآخرين‪،‬‬           ‫فإن من يقرأ الديوان سوف يكتشف أن الشاعر‬
                                                           ‫لم يستطع الفكاك من أسر أهوال تلك الرحلة‬
   ‫لكن بمسافة وبقدر من الحياد‪ ،‬ومن دون شبهة‬
              ‫التورط في إدانة أحد على نحو قوله‪:‬‬          ‫ولا من خسائرها الفادحة‪ ،‬ففعل العكس تما ًما‪،‬‬
                           ‫وكيف تكون الوحدة؟‬             ‫وسنرى أن قصائد هذا الديوان ما هي إلا سرد‬
                   ‫أن أراقب كل شيء دون تورط‬           ‫مكثف لمحن قاسية عاشها‪ ،‬ربما كان أبرزها‪ :‬الفقد‬
                                                     ‫والوحدة والاغتراب‪ .‬ويمكننا أن ننظر لهذه القصائد‬
  ‫وأن أشعر أحيا ًنا أن هيكلي العظمي كان يمكن أن‬      ‫باعتبارها كتابة «ذات» بالمعنى الفلسفي في مواجهة‬
          ‫يكون بطريقة أخرى‪( .‬الديوان‪ ،‬ص ‪)15‬‬
                                                           ‫عالم متوحش‪ ،‬تطرح علينا أسئلتها الوجودية‬
‫تمارس الذات الشعرية‪ ،‬وعلى مدى قصائد الديوان‪،‬‬                              ‫الكبرى حول الحياة والموت‪.‬‬
‫جدل التحديق‪ ،‬باعتبارها عينًا ومرآة‪ ،‬وترى نفسها‬
‫في انعكاس صور الآخرين عليها‪ ،‬فالذات في الحقيقة‬         ‫ويلفت الانتباه تكرار مفردة «البيت» التي تردد ْت‬
                                                         ‫كثي ًرا في الديوان‪ ،‬وتكاد تحتل حي ًزا واض ًحا في‬
   32   33   34   35   36   37   38   39   40   41   42