Page 40 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 40

‫في ذلك المكان البعيد من هنا في الوطن الكائن‬                ‫الشعر هو بكل دقة تأثير ذلك‬
 ‫هناك‪ .‬والمجاز يصير هنا أشبه بالجسر الذي‬
                                                       ‫الصراع المرير بين الوعي واللاوعي‪،‬‬
   ‫تعبره الذات في رحلتها للوصول إلى «بيت»‬
    ‫أو «هوية» تخصها‪ .‬ومن ثم يكون اللجوء‬                ‫وعليه أن يعمل مع المقاومة‪ ،‬ومع‬
  ‫أو الاتكاء على الذاكرة ضرور ًّيا‪ ،‬فالمهاجر أو‬
 ‫المنفي يصل فعل الكتابة بآليات عمل الذاكرة‪،‬‬                 ‫ما لا يمكن مقاومته أو الهرب‬
    ‫فالذاكرة تقدم لنا ذلك الوهم المخادع‪ .‬فما‬
  ‫مضى لم يتناوله الفناء بصورة نهائية‪ ،‬لأن‬                 ‫منه‪ ،‬وأهمية أحلام اليقظة أنها‬
  ‫ثمة إمكا ًنا لاستعادته بفضل الذكرى ويتعلم‬
  ‫الإنسان بالعودة إلى الماضي أن يتحمل المدة‬            ‫تضيء ذلك الدمج بين القديم ج ًّدا‬
     ‫الزمنية‪ ،‬إنه يج ّمع بقايا ما كان ليبني ما‬
 ‫يكون صورة جديدة قد تساعدة في أن يواجه‬                      ‫وبين المستعاد من الذكريات‪.‬‬
    ‫حياته الحالية‪ ،‬فالناس ‪-‬لا شك‪ -‬يموتون‬
‫عندما يعجزون عن أن يصلوا البداية بالنهاية‪،‬‬                ‫وهذه المنطقة التي تنفتح على‬

      ‫فالمحافظة على الذات عبر الزمن تقتضي‬                ‫تأريخ سحيق يرتبط فيها الخيال‬
   ‫تحريم النسيان كما يخبرنا بول ريكور(‪.)9‬‬
   ‫ولربما كان هذا النوع من الكتابة الشعرية‬               ‫بالذاكرة‪ ،‬كل منهما يعمق الآخر‬
‫ينتج عن «الانفصال بوصفه رغبة»‪ ،‬و يصبح‬
                                                          ‫الاغتراب السيكولوجي من حيث هو انفصال عن‬
      ‫بدي ًل ومكا ًنا للعيش عن وطن غائب‪ ،‬و يصل‬            ‫الذات أو من حيث هو قطيعة مع أشكال التواصل‬
   ‫المكان بالهوية‪ ،‬والأرض بالثقافة والتاريخ واللغة‬
 ‫بالوجود‪ ،‬وتتخلق لهذه الكتابة شعريتها من كونها‬              ‫كافة‪ ،‬وهو مبعث الشعور الطاغي بالوحدة التي‬
                                                                                            ‫تحدث ُت عنه‪.‬‬
                  ‫صارت جغرافيا بديلة للذات(‪:)10‬‬
‫أحلم دائما بالعودة‪ ،‬أنني في بلد ولا ُب ّد أن أرجع إلى‬      ‫وهناك الاغتراب المكاني أي ًضا‪ ،‬وقد حدث نتيجة‬
                                                            ‫هجرة الذات من بلد إلى بلد أجنبي آخر‪ ،‬ويمكن‬
                                        ‫بلد ثان‪،‬‬
        ‫لكن أحدا ًثا غامضة تحدث في السماء دو ًما‬               ‫النظر إليه باعتباره شك ًل من أشكال «المنفي‬
                                                                ‫الاختياري»‪ .‬هذا إلى جانب أن الكتابة ذاتها‬
               ‫كأن يكون هناك دخان يطير وحده‬                  ‫‪-‬أحيانا‪« -‬تكون مستحيلة من دون بعض من‬
              ‫أو نباتات غريبة معلقة من جذورها‪،‬‬
    ‫أو شيء ما يجعل الباب نافذة لا تفتح ولا تغلق‬                       ‫المنفى»‪ ..‬كما تقول جوليا كريستيفا‪:‬‬
     ‫وأنا في النهاية لا أعود أب ًدا‪( .‬الديوان‪ ،‬ص‪)82‬‬                                 ‫هاجر ُت في الظهيرة‬
‫ربما هذا كله يقودنا في النهاية لأن نتمكن من تأويل‬
‫عنوان الديوان‪« :‬الوداع في مثلث صغير»‪ :‬بأن الذات‬         ‫وأمطرت فوقي وأنا أحادث أبوي الضاحكين إخفاء‬
   ‫التي راكمت طبقات من الألم والفقد عبر سنوات‬                                                     ‫للألم‬
 ‫الهجرة‪ ،‬لم تجد مكا ًنا وطري ًقا متا ًحا لوداع الأحبة‬
  ‫والأصدقاء الذين فقدتهم سوى الكتابة أو الشعر‪،‬‬               ‫من كابينة في الشارع قليل الإضاءة‪( .‬الديوان‪،‬‬
    ‫والذي تراه أشبه بـ»مثلث صغير»‪ ،‬ولعلها رأ ْت‬                                                ‫ص‪)80‬‬
   ‫في ذلك أي ًضا صيغة للتعايش مع الألم أو وسيلة‬
                                                            ‫ومن هنا أعود لاستعارة أو مجاز «البيت» الذي‬
                    ‫للمصالحة بين الحياة والموت‪:‬‬          ‫تحدثت عنه ساب ًقا‪ ،‬والذي يلح عليه اللاوعي كثي ًرا‬
      ‫لست متأسيًا على الفقد ولا فر ًحا بالاكتساب‪،‬‬       ‫في الحضور‪ ،‬حيث يصبح حلم العودة ‪-‬بالنسبة لمن‬
      ‫فقط أضع لكل مقام غطاء‪( .‬الديوان‪ ،‬ص‪)37‬‬             ‫هو في وضعية المهاجر أو المنفي‪ -‬شيئًا مل ًّحا‪ ،‬حتى‬

                                                           ‫ولو تمت هذه العودة عبر المجاز‪ ،‬الذي هو ليس‬
                                                       ‫سوى لجوء إلى «هوية « تشكلت ملامحها وعلاقاتها‬
   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45