Page 39 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 39

‫‪37‬‬         ‫إبداع ومبدعون‬

           ‫رؤى نقدية‬

‫كاظم جهاد‬                 ‫أحمد يماني‬                             ‫كام ًل في الشارع»‪( .‬الديوان‪ ،‬ص‪)111‬‬
                                                           ‫إن ذكريات الأحلام التي نستطيع استعادتها‬
                             ‫جئت لأشاهد شيئًا‪،‬‬           ‫بمساعدة التأمل الشعري –فقط‪ -‬مختلفة وغير‬
                           ‫لا أعرف من أين أتيت‬         ‫محددة بوضوح‪ ،‬ولعل وظيفة الشعر الكبرى هو‬
                     ‫لكنني جئ ُت من مكان قريب‪،‬‬          ‫أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا‪ ،‬فالبيت الذي‬
                           ‫ربما جئ ُت من البيت‪،‬‬       ‫ولدنا فيه هو أكثر من مجرد تجسيد للمأوى‪ ،‬هو‬
                   ‫لأجلس وأشاهد شيئًا لا أتبينه‬         ‫تجسيد كذلك للأحلام‪ ،‬خاصة أحلام اليقظة(‪.)6‬‬
                           ‫بملابس غير مناسبة‪،‬‬
  ‫كأنها صنع ْت في أزمنة أخرى‪( .‬الديوان‪ ،‬ص‪)37‬‬                ‫وثمة مجموعة من الأشباح تنتظرنا في هذا‬
                                                       ‫البيت وتتناوب في الحضور‪ ،‬ولعل أشباح الموتى‬
‫محنة الاغتراب والكتابة بوصفها هوية‬                      ‫هي الأكثر ظهو ًرا‪ ،‬منها‪ :‬الأب‪ ،‬والأم‪ ،‬وعدد من‬

    ‫هناك توافق نسبي بين الباحثين على أن الهوية‬            ‫الأصدقاء الراحلين‪ .‬ويتكرر ظهور شبح الأب‬
  ‫بناء اجتماعي‪ ،‬يتغير دائ ًما‪ ،‬على نحو من الأنحاء‪،‬‬   ‫‪-‬على نحو خاص‪ -‬في أكثر من موضع في الديوان‪،‬‬
                                                     ‫حتى أننا نشهد في إحدى القصائد تفاصيل طقوس‬
       ‫من حال إلى حال في إطار علاقة حوارية مع‬        ‫تغسيله ودفنه باعتبارها ذكرى أليمة ظلت محفورة‬
  ‫الآخر‪ ،‬بينما يع ّرف “إسحاق شيفا” الهوية بأنها‬
‫“القدرة التي يمتلكها كل فرد منّا على أن يظل واعيًا‬       ‫في اللاوعي‪ ،‬وتلح على الحضور كلما أمكن لها‬
                                                      ‫ذلك‪ ،‬مختلطة بمشاهد أخرى قاسية‪ ،‬حتى صارت‬
     ‫لاستمرار حياته عبر التغييرات وعبر الأزمات‬
                                 ‫والقطيعات”(‪.)8‬‬           ‫الذكرى كابو ًسا متكر ًرا يؤرق صاحبه‪ .‬فنحن‬
                                                        ‫لا نعاني من الأحياء فقط بل من الأموات أي ًضا؛‬
      ‫ومن هنا يمكننا القول إن الهوية ليست شيئًا‬
   ‫جوهر ًّيا ثابتًا‪ ،‬بل هي ما يتحقق بالزمان والمكان‬        ‫«فالميت يمسك بتلابيب الحي» على حد تعبير‬
 ‫وفيهما‪ .‬ولربما كانت أقسى المحن التي عانت منها‬                                           ‫ماركس(‪:)7‬‬
‫الذات‪ ،‬والتي يطرحها علينا الديوان بقوة‪ ،‬هي محنة‬
 ‫الاغتراب وقد ظهرت في مستويات متعددة‪ ،‬فهناك‬          ‫جسد أبي الميت يتحرك وفقا لحركة رجل لا أعرفه‬
                                                                       ‫يغسل جسده الذاهب إلى القبر‪.‬‬

                                                           ‫كانت دراجة أبي الكبيرة وراء الباب مباشرة‬
                                                     ‫الباب مغلق بقفل وسلسلة تعلن عن نفسها عند كل‬

                                                                                              ‫إغلاق‬
                                                                                  ‫الباب الآخر مغلق‪،‬‬
                                                                               ‫أبواب الغرف موصدة‬
                                                      ‫والدراجة الكبيرة سوف تجوب الآفاق في الصباح‬

                                                                                              ‫الباكر‬
                                                                             ‫يقودها رجل شبه سعيد‬
                                                                       ‫يخبط بقدميه فتسرع العجلتان‬
                                                                    ‫كمن يخوض في وحل بحذاء طويل‬
                                                                              ‫ويعقد اتفا ًقا مع الأبدية‬
                                                                  ‫في الصباح الباكر‪( .‬الديوان‪ ،‬ص‪)51‬‬
                                                        ‫ولعل الشعراء المتصفين بوعي العالم يكتشفون‬
                                                       ‫الكون من خلال تلك اللعبة الجدلية بين الأنا وما‬
                                                      ‫ليس أنا‪ ،‬وهم بهذا يعرفون الكون قبل أن يعرفوا‬
                                                          ‫البيت‪ ،‬يعرفون الأفق البعيد قبل معرفة مكان‬
                                                          ‫راحتهم على نحو ما نرى في قصيدة «قطيع»‪:‬‬
   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44