Page 75 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 75

‫‪73‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                        ‫حسونة المصباحي‬

                                         ‫(تونس)‬

                   ‫غراب على ال ّسطح‬

   ‫هراوة في دبره متى يحلو لها ذلك‪ ..‬قبل كانت تكتفي‬            ‫ابتعد عن البيت مسافة تقارب نصف كيلومتر‪ ،‬ث ّم استدار‬
   ‫بالكلام‪ ..‬م ْشك راجل‪ ..‬مو ّسخ وحالتك ُت ْكر ْب‪ ..‬كاينّ ْك‬  ‫ليرى الغراب ُمنتصبًا على سطح البيت أسود‪ ،‬بش ًعا‪ ،‬كبير‬
  ‫كلب بلا موالي‪ ..‬وريحتك أنت ْن من ريحة الجيفة‪ ..‬ابعد‬         ‫الحجم‪ .‬وهو على يقين من أ ّنه ُينذر بش ّر ّما وإلا لم أختار‬
   ‫عليّا‪ ..‬ما عادش نحب نشوف منظرك المنحوس‪ ..‬وما‬                ‫أن يح ّط على سطح بيته ك ّل صباح من دون سطوح بقيّة‬
   ‫عادش نحبك تقربني والاّ تم ّسني‪ ..‬راني نو ّل شوكة‪،‬‬
‫ولا عقرب تلسعك لسعة تهزك طول لجهنم‪ ..‬أما مستقب ًل‬                ‫بيوت القرية‪ .‬وقد تع ّود أن يطرده‪ .‬أما اليوم فلم يفعل‬
  ‫فستتوالى ال ّصفعات التي ستقتله ببطء‪ ،‬ع ْر ًقا بعد عرق‪،‬‬         ‫ذلك لأنه لم يعد مهت ّما بما َي َت َو ّع ُد به‪ .‬وال ّصفعة القو ّية‬
                                                                 ‫التي تل ّقاها من زوجته حال نهوضه من النوم‪ ،‬والتي‬
                                ‫و َن َف ًسا بعد َن َفس‪..‬‬      ‫سببّت له دوا ًرا كاد ُيسقطه أر ًضا‪ ،‬أشعرته أنه لم يعد له‬
‫صباح كامد بلون آثار لكمة قو ّية‪ .‬ال ّسماء تغطيها سحب‬            ‫لا مكان‪ ،‬ولا أمل في الحياة‪ .‬والمرحومة والدته على ح ّق‬
                                                                ‫عندما قالت له في آخر لقاء بها‪ ،‬بأن الرجل الذي ُتهينه‬
    ‫بدت شبيهة بكتل من الغبار الكثيف‪ .‬الطريق ينحدر‬                 ‫زوجته لا يستح ّق أن يمشي على وجه الأرض‪ ،‬ومن‬
      ‫با ّتجاه الشرق ُمستقي ًما‪ ،‬فار ًغا‪ .‬على جانبيه حقول‬     ‫الأفضل أن يدفن نفسه بنفسه‪ .‬وبعد صفعة هذا الصباح‪،‬‬
 ‫يبّسها القحط فانبسطت عليها وحشة ينقبض لها القلب‪.‬‬                ‫هو يشعر فع ًل بأنه كائن مل ّطخ بعار أبدي‪ ،‬فاقد لأ ّي‬
   ‫ما ًّرا أمام بيت كئيب بدا وكأنه متروك منذ زمن بعيد‪،‬‬         ‫صلاحيّة‪ .‬ث ّم بأ ّي وجه سيجالس رجال القرية ُمستقب ًل‪،‬‬
 ‫اصطدمت قدمه اليمنى بحجر فسقط على الأرض الجا ّفة‬              ‫وبأي لسان سيشاركهم الحديث‪ .‬وبأ ّي قامة سيذهب إلى‬
   ‫الصلبة‪ .‬لدقائق ظل ُم ْغم ًضا عينيه في انتظار أن يخ ّف‬       ‫ال ّسوق بينما الأصابع مص ّوبة نحوه‪ ،‬والألسن تلوك ما‬
‫وج ُع السقطة العنيفة خصو ًصا في الجبهة‪ ،‬وفي الحزام‪..‬‬           ‫تهامست به عنه البارحة‪ ،‬وقبل البارحة‪ ..‬وبعد ال ّصفعة‬
     ‫حين فتحهما‪ ،‬وجد عند رأسه شي ًخا يابس الجسد‪،‬‬               ‫التي ر ّن صداها في القرية كما لو أنه صدى طلقة نار ّية‪،‬‬
    ‫ضيّق العينين‪ُ ،‬ت َب ّق ُع وجهه بثور سوداء‪ ،‬وعلى رأسه‬        ‫هل سيكون قاد ًرا على أن يركب زوجته‪ ..‬لا‪ ..‬لا‪ ..‬أب ًدا‪..‬‬
‫مظلة واسعة من السعف‪ .‬وكان ينظر إليه بشفقة مشوبة‬                  ‫لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك‪ ،‬بل هي التي ستركبه‬
‫بالريبة والحذر‪ .‬وهو يحاول النهوض عا ًّضا على شفتيه‪،‬‬              ‫مستقب ًل‪ ،‬وبإمكانها أن تضع في دبره ما تشاء! وعلى‬
                                                               ‫أ ّية حال هو أصبح عاج ًزا عن ركوبها منذ أشهر طويلة‪.‬‬
                                    ‫سأله الشيخ‪:‬‬                   ‫وكلّما ه ّم بها‪ ،‬خانه صاحبه‪ ،‬وتقلّص حجمه ليصبح‬
                              ‫‪ -‬لا باس يا وليدي؟‬               ‫بحجم حشرة صغيرة بين فخذيه‪ .‬وصديقه عمار تع ّود‬
                                                               ‫أن يقول له بإنه من ح ّق الزوجة التي لا ُي ْشب ُعها زوجها‬
                                     ‫‪ -‬لا باس‪..‬‬               ‫أن تفعل به ما تشاء‪ ،‬وأن الرجل لا يغلب المرأة إلاّ إذا كان‬
                              ‫‪ -‬تحب شريبة ماء؟‬                   ‫له واحد صلب مثل قضيب من نحاس‪ .‬وال ّصفعة التي‬
                              ‫حرك رأسه مواف ًقا‪..‬‬             ‫تل ّقاها هذا الصباح أمام طفليه الصغيرين إشارة واضحة‬
  ‫بخطوات ثقيلة متعثرة‪ ،‬انطلق الشيخ إلى البيت الكئيب‪،‬‬             ‫أن زوجته هي الغالبة الآن‪ .‬لذا هي قادرة مستقب ًل أن‬
                  ‫ومنه عاد بزجاجة ماء بلاستيكية‪..‬‬              ‫تتر ّب َع على صدره‪ ،‬وأن تدوس عليه بقدميها‪ ،‬وأن تحشو‬

                                  ‫شرب نصفها‪..‬‬
                               ‫‪ -‬بالشفاء يا ولدي‬

                                   ‫‪ -‬ربي يشفيك‬
   70   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80