Page 76 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 76
العـدد 34 74
أكتوبر ٢٠٢1
بعد تلك س ّموها «انتخابات ش ّفافة» ،والتي لا ينقطعون عاد الشيخ ينظر إليه بنفس الشفقة المشوبة بالحذر
عن تمجيدها ،والتنويه بها في الاذاعات ،والقنوات
والربية ،ثم قال له:
التلفزيونيّة ..كلهم كلاب ولصوص وأنذال ..والخاسرون ُ -ي ْظهرلي فيك مر ّي ْض يا وليدي..
دائ ًما هم المخصيّون والمفلسون أمثاله ..يرحل الحاكم -لا ..لا باس ..لا باس ..الحمد لله..
القديم ،ويأتي الحاكم الجديد ،والعريان يبقى عريا ًنا،
-إن شاء لا باس وربي يسترك من كل بلاء يا وليدي..
والمخص ّي مخصيًّا ،والجائع يظ ّل خاوي البطن ،يستجدي
اللقمة فلا ترحمه لا الأرض ،ولا السماء ..وهو تح ّمس -بارك الله فيك..
في البداية لأصحاب اللح ّي ظا ًّنا أنهم أتقياء يخشون الله واصل سيره عا ًّضا على شفتيه من حين لآخر بسبب
الألم .اجتاز واد ًيا جا ًّفا ليجد على يمينه مقبرة صغيرة
ورسوله ،لذا سيكونون صادقين في أقوالهم ،و ُمخلصين تغطيها أعشاب جافة .توقف عن السير ،وراح يتأمل
في أعمالهم .وفي «الانتخابات الش ّفافة» ص ّوت لهم من القبور التي تق ّشرت ،وبهت لونها الأبيض ليصبح عاك ًسا
أكثر لمأساة الإهمال والنسيان والموت .وفي لحظة ما،
دون تر ّدد .بل أقنع أخاه الأكبر الذي لم يكن واث ًقا منهم رأى َن ْع َشه محمو ًل على أكتاف رجال القرية باتجاه
بأن يفعل مثله .لكن ها أن الأ ّيام تكشف أنهم هم أي ًضا المقبرة وهم يرددون :اليوم يا رحمان هذا عبدك ..وبعد
يعشقون الكراسي الفخمة ،ولا يف ّكرون إلا في ملء صلاة الغائب يرمون به في الظلمة الأبدية ،ثم يعودون
جيوبهم ،وخدمة مصالحهم ،ومصالح أقاربهم تما ًما مثل
إلى بيوتهم ..وسرعان ما ينسونه مثلما نسوا كثيرين من
ال ّسابقين ،بل أكثر منهم غالب الأحيان .والآن لا يك ُّف
أخوه الأكبر عن لومه ،وتقريعه قائ ًل له بأن أصحاب قبله ..ه ّز ْت جسده رعشة كأنها ص ْعقة كهربائية ،وأحس
اللحى الذين لا ينقطعون عن الا ّدعاء بأنهم أبناء الله ،هم برغبة في البكاء ..نعم تلك هي النهاية التي لا مفر منها
في الحقيقة أش ّد مك ًرا ،وخبثًا من الشياطين! لأحد ..وهي آتية لا ريب فيها كما يقول إمام القرية..
العلا في يوم سوقها الأسبوعي ..ضجيج وصخب عال..
غار ًقا في همومه السوداء ،قطع مسافة أخرى من دون
شوارع ُمزدحمة بأناس من مختلف الأعمار َي َت َع ّجلون
السير وسط غبار كثيف ،وعلى وجوههم اليابسة هموم أن َي ْن َتب ُه إلى أ ّي شيء أمامه ،أو خلفه ،أو على يمينه أو
الأيام الكالحة ،ومخاوف حاضر ُمضطرب ،ومستقبل يساره ..فجأة وجد نفسه على مشارف بلدة العلا التي
تبعد عن قريته 15كيلومت ًرا ..النّار المشتعلة في صدره
مجهول ..نداءات الباعة تختلط بآيات قرآنية ،وبأغا ٍن جعلته يقطع مسافة مديدة من دون أن يشعر بذلك..
بدوية تصحبها دقات الطبول ،وأنغام المزامير ..بين وقت عمار على ح ّق فيما قال ..لكن كان عليه أن يضيف بأن
قضيبًا من نحاس لا يكفي وحده لإرضاء امرأة ،والت ّغلب
وآخر ،ترتفع شكاوي الشحاذين المُط ّر َزة بالابتهالات، عليها ،بل لا ب ّد من المال أي ًضا .والرجل المفلس مثل الرجل
وطلب الصدقة والرحمة والغفران.. االلمآخن َمص ّْخي .لصا ّيفرومقفلبينسه!مافأل ّايبلالعتّنقةوحىلّ،تولباه؟بغويأريها.د.عاوءهوش ّر
ساقه إلى هذا المصير الأسود؟ منذ ما يربو على العامين
راغبًا في استراحة ُت َخ ّف ُف عنه تع َب المسافة المديدة التي وهو بالكاد يقدر على تأمين القوت لعائلته الصغيرة .وك ّل
قطعها راج ًل ،أ ْس َن َد ظهره إلى حائط أحد الدكاكين ..م ّدد
الحاجيات التي تفر ُضها الأعياد ،والمناسبات الكبيرة لا
ساقيه ،ثم راح ُيراق ُب حركة السوق ..وفي لحظة ما، يتم ّكن من الحصول على القليل منها إلا ويكون ُمجب ًرا
عادت به الذاكرة إلى ما ٍض بعيد عندما كانت العلا قرية قلوبهم الذين لا تزال في أن َي ْستدين من هذا أو ذاك من
كلّها الآخرين .والبلاد َب ْذ َرة من الرحمة والشفقة على
وسخة ،أكثر بؤ ًسا وشقاء من هذا الزمن ..بدكاكين في حالة من الغليان والاضطراب الدائمين .وفي ك ّل يوم
خشبية عليها يتراكم الغبار ،وتراب العواصف ..وفي يوم
سوقها الأسبوعي ،تتدفق عليها جموع غفيرة من البوادي أخبار أش ّد سو ًءا من أخبار الأمس .ولا شيء في الأفق
القريبة والبعيدة فت ْسو ُّد من كثرة الأحمرة ،وسائل النقل يب ّشر بتح ّسن الأوضاع ..تفووووه ..ألف لعنة ولعنة
على الحكام القدماء الذين ف ّروا بعد أن ملأوا جيوبهم،
الوحيدة في تلك الأيام ..وهو كان في الثامنة من عمره وعلى الحكام الجدد الذين جلسوا على الكراسي الفخمة
لما رافق المرحوم والده أول مرة إلى سوق العلا ..بعدها
أصبح الذهاب إلى العلا في يوم سوقها الأسبوعية أه ّم
حدث بالنسبة له ..الأيام الأخرى تكون رتيبة مملة،
َم ْو ُسومة بهدوء ثقيل ُيك ّد ُر روحه ،و ُيصيبها باكتئاب