Page 80 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 80
العـدد 34 78
أكتوبر ٢٠٢1
شجرة خ ّروب عجوز هائلة الحجم ،به يحيط سور بباب من م ّرة في ال ّشهر الواحد .وهو من أثرياء القرية .له بيت
حديد ّي كبير .ز ّمر صالح ثلاث م ّرات .بعد بضع دقائق ُمريح ،والجيب دائ ًما ملآن .وفي الحقيقة هو يحسده على
النعمة التي خ ّصه بها الله .ويزداد هذا الحسد استعا ًرا
برز من الباب الحديدي رجل نحيف ،غامق ال ّسمرة،
بلحية خفيفة ،ورأس أشيب ،وعنق طويل .وكان يرتدي حين تبالغ زوجته في مدح صالح ،والإشادة بذكائه،
دجينز بهت لونه ،وقمي ًصا أزرق بمر ّبعات بيضاء .نزل و»عفرتته» .حين يزورهم في البيت ،تظهر له و ًّدا يشعل
صالح من الشاحنة ،واندفع نحوه ليعانقه بحرارة ،ث ّم
نار الغيرة في جسده ،ويخرجه عن طوره ،و ُيذكي
أشار إليه أن يأتي ففعل .بعد السلام ،قادهما الرجل الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات
إلى غرفة فسيحة بها طاولات ،وكراس بلاستيكيّة.
والإشارات والغمزات ..أوف يا لكيد النساء!
منها تفوح روائح الخمر ،والبيرة ،والسجائر ،واللحم -فاش تخ ّمم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح.
المشوي ،والزيت المقلي .على الجدار جهاز تلفزيون ينقل
مباراة قديمة لكرة القدم بين فريقين أجنبيين .في وسطها .. -
أربعة رجال بوجوه تن ّز عر ًقا ،وعيون محم ّرة يشربون، -ما تخ ّم ْمش الدنيا فيها الموت ..وما يرب ْح فيها كان
ويأكلون اللحم المشوي المكدس أمامهم بنهم وشراهة.
وهو يعرف فقط أكبرهم سنًّا .وهو تاجر خرفان أصلع الزاهي دي ًما..
-وكيفاش تحبني ن ْزها والجيب دي ًما فارغ؟
قلي ًل ،بشارب كثيف ،وبطن ُم ْن َتفخ .جميعهم وقفوا أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية .م ّد
للترحيب بصالح ،والسؤال عن أحواله ،وأحوال عائلته. له عشرة ورقات بعشرين دينا ًرا ،قائ ًل له بأنه يمكنه أن
أما هو فلم يعيروه أ ّي اهتمام. يعيدها له متى يشاء..
شرب كل واحد منهما بيرتين لـ»إطفاء نار العطش» زحفت الوساوس ال ّسوداء في خلايا دماغه مثلما تزحف
بحسب تعبير صالح ،ث ّم انتقلا الى «الكوديا الروج». الأفاعي على الرمل ال ّساخن ..ترى ما س ّر هذا ال َك َرم؟ وما
ولم يكن صالح يك ّف عن طلب المزيد من اللحم المشو ّي، ال ّداعي له؟ ابن عمه لم يفعل هذا من قبل أب ًدا .وفي المرات
ومعه معكرونة وسلاطة مشو ّية .في آخر ال ّظهيرة ،لعبت القليلة التي رغب أن يستدين منه مبالغ بسيطة واجهه
الخمرة برؤوس الرجال الآخرين فشرعوا في ترديد بالرفض وال ّصدود ..وإذن لا ب ّد أن يكون هناك موجب
أغاني الح ّب البدوية بأصواتهم الغليظة ،القبيحة .غير أن
ناجي تد ّخل بحزم طالبًا منهم الك ّف عن ذلك خشية أن لهذا ال ّسخاء ..أوف ..ولكن عليه أن يقبل به خصو ًصا
تلتقط الآذان الفضوليّة ما يحدث فيجيء رجال الحرس وأن المبلغ سيخ ّفف عنه وطأة الهموم التي تثقل صدره..
الوطني ليسوقوا الجميع إلى السجن ،أو َي ْه ُجم أصحاب
اللحى على البيت فيحرقونه ،ويحرقون من فيه ..أطاعه قفز من الكرسي ل ُيعانق ابن ع ّمه بحرارة:
الرجال مكرهين .بعد قليل ،انبرى تاجر الخرفان يتح ّدث -شكرا يا ولد عمي العزيز!
عن مغامراته الجنسيّة في الماضي ،والحاضرُ ،متباهيًا
بما يأتي به من عجائب مع النساء حتى بعد أن تجاوز -اسمع يا ولد عمي الغالي ..أنا اليوم ما عندي ما نعمل..
س ّن الخمسين .وجاراه الآخرون .ك ّل واحد منهم راح ونحب نعمل شيخة معاك!
يفاخر بفحولته راو ًيا قصصه مع النساء ،مشي ًدا بفضائله -معايا نا؟
معه ّن في الجماع .وكشف صالح أن له عشيقة جديدة
تعيش في القيروان .وهي «جننّته» لأنها تأتي بفنون في -يا نعم معاك يا لد عمي الباهي ..ونحب نهزك عند
الفراش لم تأ ِت بها أ ّي عشيقة من عشيقاته ال ّسابقات. ناجي..
ومن ش ّدة غرامه بها ،هو يذهب إليها في ك ّل لقاء وهو
يرجف كالمحموم .أما هو فلم يتد ّخل في الحديث ،مكتفيًا -أشكون ناجي؟
بالاستماع .بين وقت وآخر تر ّن في رأسه ال ّصفعة التي هام ًسا أعلمه صالح أن ناجي ح ّول قس ًما من بيته الريفي
تل ّقاها في الصباح فيصعد ال ّدم إلى رأسه ،ويشتغل الغيظ إلى حانة سرية ،يرتادها عشاق البيرة ،والنبيذ «الروزي»،
و»الروج»..
غادرت الشاحنة العلا ،وانطلقت شما ًل في الطريق المو ّدي
إلى حفوز ،والقيروان .وقبل أن تبلغ «وادي الجبّاس»،
انحرفت شر ًقا لتسلك طري ًقا ترابيًّا متع ّر ًجا ،على جانبيه
سياجا صبّار عاليان .بعد أن قطعت مسافة تق ّدر بسبع
كيلومترات ،تو ّقفت الشاحنة أمام بيت تنتصب أمامه