Page 201 - merit 36- dec 2021
P. 201

‫الملف الثقـافي ‪1 9 9‬‬

     ‫الخوف ولا الأمل هو‬            ‫مرادفة للهوية ذاتها‪،‬‬       ‫والشجر‪ ،‬بل والنهر ذاته‪،‬‬
   ‫ما يجعل اقتراب العابر‬       ‫فكثيرة هي المواضع التي‬          ‫ولم يتبق سوى الرائحة‪،‬‬
  ‫ووصول العاشق حقيقة‪،‬‬           ‫ترد فيها كلمة «الرائحة»‬      ‫وهؤلاء المتمسكين بحياتهم‬
    ‫فقط عدم وجود رائحة‬       ‫كي تعبر عن الهوية في عالم‬         ‫القديمة‪ ،‬ويختتم شاعرنا‬
    ‫للطعام هو الذي يحقق‬        ‫الإنسان أو عالم الطبيعة‪،‬‬
‫ذلك‪ .‬والمفارقة ذات الدلالة‬     ‫ففي قصيدة «رفق» يقول‬               ‫قصيدته بما يعني أن‬
  ‫أن الطعام نفسه موجود‬                                      ‫الزمن جعل للرائحة صو ًتا‪،‬‬
‫لكن دون رائحة‪ ،‬أي مذاق‪،‬‬            ‫الشاعر واصفا الليل‪:‬‬        ‫وهو في تأويلنا الشخصي‬
   ‫وهي دلالة تنسحب على‬            ‫«الليل إلى وقت قريب‬
   ‫باقي الموجودات في هذا‬                                        ‫جعل للرائحة إيقا ًعا‪ ،‬ما‬
 ‫العالم‪ ،‬ما يعني أن وجود‬                    ‫كان شاع ًرا‬         ‫يعني الاستغناء عن لغة‬
‫الأشياء بغير طعم (رائحة)‬              ‫له رائحة غامضة‬          ‫الكلام والإنصات إلى لغة‬
 ‫يجعلها هي والعدم سواء‪.‬‬                                         ‫العصر أو الاكتفاء بذلك‬
 ‫وليس هناك أبلغ من هذه‬                       ‫‪ ..‬غامضة‬         ‫العبق السحري القادم من‬
   ‫الكلمات للتعبير عن هذا‬                     ‫وطازجة‬          ‫الماضي‪ .‬وفي هذا السياق‪،‬‬
                               ‫‪ ..‬كانت تأخذنا إلى وسط‬
                  ‫المعني‪:‬‬                                              ‫تقول القصيدة‪:‬‬
     ‫«لا يوجد شيء مؤكد‬                          ‫المدينة‬     ‫«استيقظ الناس ذات صباح‬
                                         ‫وسط المدينة‪..‬‬
              ‫يوجد كلام‬            ‫كان رسا ًما موسيقيًّا‬             ‫على رائحة جديدة‬
                  ‫وخوف‬                                         ‫قيل لهم‪ :‬المدينة أصبحت‬
                                              ‫وشاع ًرا‬
            ‫وبالطبع أمل‪.‬‬            ‫‪ ..‬وتجري من تحته‬                            ‫قديمة‬
    ‫يعتقد العابر أنه اقترب‬                                  ‫وأن الطلاء الجديد ضروري‬
                                               ‫الأنهار»‬
       ‫والعاشق أنه وصل‬           ‫(كن شجا ًعا هذه المرة‪،‬‬        ‫‪ ..‬لأننا في انتظار زائرين‬
  ‫ولا توجد رائحة للطعام»‬                                      ‫مياسر الناس خرجوا إلى‬
                                               ‫ص‪.)١١‬‬
    ‫(كن شجا ًعا هذه المرة‪،‬‬     ‫فالليل له أوصاف عديدة‪،‬‬                    ‫المدن الجديدة‬
                ‫ص‪.)٢٥‬‬                                        ‫وأخذوا معهم الماء والشجر‬
                                    ‫كان شاع ًرا ورسا ًما‬      ‫وتركوا الآخرين يقاومون‬
        ‫ولا يكتفي الشاعر‬         ‫وموسيقيًّا وتجري من‬
    ‫بالوقوف بالرائحة عند‬       ‫تحته الأنهار‪ ،‬لكن أ ًّيا من‬                    ‫الرائحة‬
  ‫حدود الهوية‪ ،‬لكنه يصل‬          ‫هذه الأوصاف لم يكن‬                    ‫ذهبوا إلى النهر‬
    ‫بها إلى ما هو أبعد من‬       ‫يمثل هويته‪ ،‬فهويته هي‬                  ‫فلم يجدوا نه ًرا‬
   ‫ذلك بحيث تكون أص ًل‬        ‫تلك الرائحة الغامضة التي‬         ‫الرائحة جلست ولم يأت‬
    ‫للوجود‪ .‬فإذا ما تجرد‬         ‫تجذب الناس إلى وسط‬
                                                                                  ‫أحد‬
      ‫الإنسان من تجاربه‬                        ‫المدينة‪.‬‬                  ‫بعد سنوات‪..‬‬
 ‫وخبراته وثقافته‪ ،‬وإذا ما‬        ‫وفي قصيدة «الصمت»‬                 ‫صار للرائحة صوت‬
‫نحى العقل والمنطق جانبًا‪،‬‬        ‫تتبدي الرائحة كمعادل‬         ‫ولم يعد هناك من يصغي‬
                                ‫للحقيقة ولليقين بعد أن‬
   ‫وإذا ما تخلي عن قوته‪،‬‬      ‫هيمن الشك على كل شيء‪،‬‬                           ‫إلى أحد»‬
    ‫وعن الآخرين‪ ،‬ووقف‬             ‫وبالرغم من الحضور‬             ‫(أنت في القاهرة‪ ،‬ص‪)٩‬‬
‫وحي ًدا أمام عيني حبيبته لا‬    ‫الطاغي للعالم وللأحوال‪،‬‬       ‫وارتباط الرائحة بإشكالية‬
 ‫يحمل سوى حبه وبراءته‬             ‫يظل غياب الرائحة هو‬
 ‫الأولى‪ ،‬فإنه حت ًما سيشتم‬    ‫العلامة المؤكدة لزيف هذا‬             ‫العلاقة بين الماضي‬
                               ‫الحضور‪ .‬فلا الكلام ولا‬           ‫والحاضر إنما ينبع من‬
                                                             ‫ارتباطها بالهوية‪ ،‬ليس هذا‬
                                                             ‫فحسب‪ ،‬بل يمكن اعتبارها‬
   196   197   198   199   200   201   202   203   204   205   206