Page 202 - merit 36- dec 2021
P. 202

‫العـدد ‪36‬‬          ‫‪200‬‬

                                                          ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬  ‫رائحة البداية البكر للإنسانية‬
                                                                             ‫التي أهال عليها تاريخ‬
     ‫لمستقبل غامض‪ ،‬فكل‬           ‫الليل‪ ،‬الشتاء‪ ،‬لا تفسره‬
  ‫العلاقات سريعة الزوال‪،‬‬     ‫الصدفة المجردة ولا محض‬                       ‫الصراع والكراهية طبقات‬
 ‫والشعور بالفقد والحنين‬                                                 ‫كثيفة من الغبار الذي أعمى‬
   ‫إلى الأصدقاء هو السمة‬        ‫حبه لهذه الألفاظ‪ ،‬وإنما‬
  ‫الغالبة والمميزة لشعرية‬    ‫يفسره ذلك الاتساق المحكم‬                      ‫البصائر وطمس الحقائق‬
‫داود‪ .‬غير أن المفارقة‪ ،‬فيما‬  ‫والواضح بين مفردات داود‬                    ‫فذابت الحدود بين الإنسان‬
‫يبدو‪ ،‬تكمن في أن شاعرنا‪،‬‬
‫الذي علمتنا قصائده كيف‬           ‫وبين أغراضه الشعرية‬                                    ‫والوحش‪.‬‬
   ‫نضبط إيقاعنا مع إيقاع‬      ‫وهمومه الذاتية‪ ،‬فالشعور‬                        ‫فيقول داود في قصيدة‬

    ‫الحياة‪ ،‬لم يشأ لإبداعه‬      ‫بالحزن والوحدة والفقد‬                             ‫بعنوان «رائحة»‪:‬‬
 ‫أن ُيكتب له الزوال‪ ،‬فكان‬     ‫يناسبه‪ ،‬بغير شك مفردات‬                       ‫«أكون في أفضل حالاتي‬
                             ‫تعبر عن معاني الزوال مثل‬
     ‫حري ًصا على أن يكتب‬      ‫الموسيقى والرائحة‪ ،‬اللتان‬                         ‫حين يختفي الناس‬
      ‫بإيقاعه هو‪ ،‬الهادئ‪،‬‬    ‫لا تمكثان طوي ًل في الزمان‪،‬‬                   ‫وتهبط سحب البراءة مع‬
 ‫البطيء‪ ،‬وأن يرغم الحياة‬      ‫أو معاني الخوف والرهبة‬
     ‫نفسها على أن تضبط‬         ‫مثل الليل والشتاء بالرغم‬                                    ‫الضوء‬
  ‫إيقاعها مع إيقاعه‪ ،‬حتى‬                                                     ‫أكون على راحتي تما ًما‬
    ‫يتحقق لقرائه ومحبيه‬        ‫من أن ليل الشتاء طويل‪،‬‬
 ‫نوع خاص من الموسيقى‬              ‫غير أن الشتاء في ذاته‬                        ‫وأتكلم مثل المجاذيب‬
       ‫تعينهم على التريث‬                                                  ‫لأنني ضعيف أمام بلاغة‬
  ‫قلي ًل ومحاولة الإمساك‬       ‫فصل قصير نسبيًّا قيا ًسا‬
‫باللحظات الأصيلة العابرة‬                     ‫بالصيف‪.‬‬                                        ‫عينيك‬
    ‫قبل أن تضيع في عالم‬                                                ‫لأنني في حضنك أشم رائحة‬
    ‫مصاب بجنون الفرجة‬             ‫إن الحياة نفسها التي‬
      ‫ولوثة الاستعراض!‬         ‫عاشها داود داخل مقاهي‬                                        ‫الخلق‬
                                ‫وسط البلد لم تكن تتسم‬                            ‫رائحة أول الخلق»‬
                               ‫بالثبات والاستقرار بقدر‬                       ‫(كن شجا ًعا هذه المرة‪،‬‬
                              ‫ما كانت حياة‪ ،‬تشبه غانية‬
                                                                                          ‫ص‪.)٧٥‬‬
                                 ‫نذرت نفسها للعابرين‪،‬‬                    ‫إن إلحاح إبراهيم داود على‬
                                     ‫الباحثين عن معني‬                     ‫استخدام ألفاظ بعينها من‬

                                                                           ‫قبيل الموسيقى‪ ،‬الرائحة‪،‬‬
   197   198   199   200   201   202   203   204   205   206   207