Page 203 - m
P. 203

‫‪201‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

 ‫ترك تلك الدبابات المدمرة في‬           ‫خاتمة‬                       ‫وليس بشخصية المتحدث‪،‬‬
 ‫ساحات المعركة التي انتهت‪.‬‬                                          ‫وهذا التصور يلغي فكرة‬
                                   ‫مع هذا الاستسلام الممتع‬      ‫الهوية التقليدية ويحل محلها‬
    ‫إن العالم اليوم مهيأ لأن‬     ‫لهيمنة تكنولوجيا الاتصال‪،‬‬           ‫نو ًعا أخر من الهوية هو‬
    ‫ينقلب رأ ًسا علي عقب في‬                                      ‫موضوع الحوار بينكما‪ .‬هنا‬
  ‫غضون سنوات قليلة‪ ،‬وهو‬            ‫ينتج أمران‪ ،‬الأول‪ :‬توقف‬       ‫تختفي الفواصل بين الذكور‬
     ‫ما لم يحدث في التاريخ‬      ‫حاسة النقد ونزعته‪ ،‬والثاني‪،‬‬       ‫والإناث‪ ،‬الأغنياء والفقراء‪،‬‬
‫البشري من قبل‪ ،‬فمنذ عقود‬                                           ‫البيض والملونين‪ ،‬الشباب‬
    ‫ليست ببعيدة كان العمل‬         ‫تأطير سقف المعرفة‪ ،‬بأنها‬       ‫والشيوخ‪ ،‬ويصبح للتواصل‬
   ‫اليدوي هو أصل المجتمع‪،‬‬              ‫فقط هذا الذي يعرض‬          ‫رمزيات مختلفة مثل وحدة‬
 ‫والظاهرة الأكثر برو ًزا فيه‪،‬‬
     ‫والآن يحل محله العمل‬            ‫أمامهم‪ .‬والاعتياد يخلق‬           ‫اللغة‪ ،‬وحدة أو تقارب‬
 ‫الذهني‪ ،‬ليصبح هو الظاهرة‬             ‫التكلس‪ ،‬والتوقف عند‬        ‫الثقافة المعاصرة‪ ،‬أو الوحدة‬
  ‫التي تميز المجتمعات‪ ،‬الأمر‬        ‫الاستنشاق‪ ،‬فالشهيق لا‬         ‫الدينية أو الوحدة المذهبية‪،‬‬
 ‫الذي سيلقي بظلاله الكثيفة‬        ‫يتبعه زفير‪ .‬وكذلك تتوقف‬         ‫أو الإيديولوجيا أو النسوية‬
 ‫علي المتغيرات‪ ،‬بد ًءا من تغير‬       ‫القدرة على الإبداع‪ ،‬فقط‬
 ‫في الهوية والماهية الإنسانية‬     ‫كل ما يمكن فعله هو تكرار‬          ‫والجندرية والمثلية‪ ..‬إلخ‪،‬‬
   ‫إلى تغير في شكل علاقات‬           ‫النموذج الناجح والمنتشر‬        ‫بعد أن كانت معاييره هي‬
‫العمل وعلاقات الإنتاج‪ ،‬وعلي‬     ‫بكثافة على وسائل التواصل‪.‬‬        ‫السلم الطبقي أو الاجتماعي‪،‬‬
   ‫سبيل المثال فقد دخلنا في‬        ‫وتصبح المعركة ليست في‬            ‫وهذا هو البرنامج الثقافي‬
  ‫مرحلة البنوك الإليكترونية‬     ‫إنتاج الفكر بل في إبداع طرق‬
    ‫‪ E-Banking‬التي تقدم‬          ‫جاذبة تجعلك تقبل على هذه‬             ‫العالمي الآن‪ ،‬الذي تنبأ‬
  ‫خدماتها المصرفية للعملاء‬       ‫السلعة أو هذا الفيديو المثير‪.‬‬       ‫به مارشال مكلوهال في‬
   ‫بدون أن يكون لها مقرات‬         ‫من هذا التصور الحاكم في‬            ‫ستينيات القرن الماضي‬
  ‫على الأرض‪ ،‬مما يعني عدم‬         ‫التسويق المعرفي والسلعي‪،‬‬       ‫بمقولته التبشيرية‪ ،‬وهي أن‬
 ‫وجود عمالة بالمعني الواسع‬       ‫نما الاقتصاد الرقمي بدرجة‬        ‫العالم في طريقه لأن يصبح‬
 ‫للكلمة‪ .‬وكذلك تعزيز نظرية‬          ‫غير مسبوقة وفي فترات‬          ‫« قرية عالمية»‪ .‬بل وإطلاق‬
   ‫المستهلك‪ ،‬بحيث لا يصبح‬          ‫زمنية وجيزة‪ .‬إنه اقتصاد‬           ‫صرخة في وجه الجميع‬
      ‫هو ذلك الشخص الذي‬         ‫مبني على المعرفة‪ ،‬ورأسمالية‬        ‫بأن عصر التكنولوجيا لن‬
  ‫يأكل أو يسكن أو يلبس أو‬       ‫قائمة على تصدير المعلومات‪،‬‬       ‫يعتمد على النظريات الكبرى‬
   ‫يستقل وسائل الموصلات‪،‬‬            ‫وبالتالي فإن نظرية النمو‬       ‫والإيديولوجيات التقليدية‬
                                     ‫الجديدة أصبحت تضع‬          ‫والدولة المركزية مفرطة القوة‬
      ‫بل صار هو الذي يرى‬        ‫اقتصاد المعرفة ‪Knowledge‬‬            ‫والهيمنة‪ .‬وبالفعل حدثت‬
 ‫ويستمتع بالفرجة بما تقدمه‬       ‫‪ Economy‬على قمة مولدات‬            ‫القفزة الكبرى في النصف‬
                                    ‫التنمية في أي بلد‪ .‬في هذا‬        ‫قرن الأخير‪ ،‬تلك القفزة‬
     ‫التكنولوجيا من رفاهية‬       ‫النوع من الاقتصاد الجديد‪،‬‬           ‫التي كان عنوانها التقدم‬
   ‫فائقة‪ ،‬مما يوحي بحدوث‬         ‫تخرج فكرة الثقافة والهوية‬       ‫التكنولوجي‪ ،‬وانعكست على‬
                                 ‫الوطنية من حساباته تما ًما‪،‬‬        ‫حياة البشر وسلوكياتهم‬
     ‫تمدد لفكرة الاستهلاك‪،‬‬       ‫ومن ثم فمفهوم مثل التنمية‬          ‫أي ًضا‪ ،‬فأسهم هذا التقدم‬
 ‫ستؤثر بالضرورة على تمدد‬            ‫المستقلة‪ ،‬والخصوصيات‬           ‫في انكماش العالم‪ ،‬وصرنا‬
‫لأفكار أخرى كثيرة من أهمها‬      ‫الثقافية ليست سوى مخلفات‬         ‫أمام ثورة معرفية أو انفجار‬
                                    ‫سوف يتركها العالم‪ ،‬كما‬
       ‫نظرة الإنسان لنفسه‬                                                  ‫معلوماتي متتا ٍل‪.‬‬
   198   199   200   201   202   203   204   205   206   207   208