Page 163 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 163
161 الملف الثقـافي
الورعة! فما يثبته العلم المعنيين يقصد ،وإن كان يذكر بيكون.
يقينًا وبالبراهين نتمسك به، في كتابه «إحياء علوم الدين» ولما كانت نزعته النقدية
حتى ولو صدر من أصحاب مرتبطة إلى حد كبير برحلته في
الخوارق والكرامات ،ما يبدو أن معرفة الله فطرية وهي البحث عن اليقين ،فلنشير إلى
أساس كل المعارف)6(. هذه الرحلة فيما يأتي:
أنه ينقضه.
ولكن كيف يمكن أن نصل إلى فتساءل الغزالي عن ماهية البحث عن اليقين:
هذا العلم وبأي منهج؟! وهل العلم اليقيني الذي يطمح في
هو متحقق في علوم عصره؟ الوصول إليه ،وأجاب بقوله: يقول الغزالي تعبي ًرا عن
ذلك العصر الذي كان يموج هو الذي ينكشف فيه المعلوم رحلته في البحث عن اليقين:
بخلافات الأديان والملل ،وكثرة انكشا ًفا ،لا يبقي معه ريب ،ولا «إن التعطش إلى درك حقائق
يقارنه إمكان الغلط والوهم،
المذاهب والفرق واختلافها ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، الأمور ،دأبي وديدني ،من
وتناحرها ،وقد استند الغزالي بل الأمان من الخطأ ينبغي أن أول أمري ،وريعان صباي،
يكون مقار ًنا لليقين ،مقارنة غريزة ،وفطرة من الله وضعتا
في تعدد الفرق والمذاهب إلى في جبلتي ،لا باختياري حتى
«حديث افتراق الفرق»)8(. أو تحد ًيا بإظهار بطلانه انحلت عني رابطة التقليد»)4(.
أدرك الغزالي أن الوصول -مث ًل -من يقلب الحجر ذهبًا
بناء على هذه الفطرة راح
إلى هذا العلم اليقيني ،لا يتم والعصا ثعبا ًنا ،لم يورث الغزالي يبحث عن اليقين ،غير
إلا بفحص علوم العصر، ذلك ش ًّكا وإنكا ًرا ،فإني إذا أنه أدركته الحيرة والدهشة،
وتحليلها ،ونقدها ،وتمييز علمت أن العشرة :أكثر من
الثلاثة ،فلو قال لي قائل ،لا بل لما شاهده من تضارب
الحق فيها عن الباطل ،أي لا الثلاثة أكثر ،بدليل أني أقلب العقائد ،وكثرة المذاهب في
سبيل إلى الوصول إليه إلا هذه العصا ثعبا ًنا ،وقلبها، مجال العقيدة ،كما راعه أي ًضا
وشاهدت ذلك منه ،لم أشك شيوع التقليد في العقيدة
بنقد هذه العلوم ،نق ًدا داخليًّا، بسببه في معرفتي ،ولم يحصل الدينية ،فالأبناء ينشأون على
وخارجيًّا. لي منه إلا التعجب من كيفية دين آبائهم ،كأن الدين أمر
تلقين للنشء ،وقارن ذلك
يعبر الغزالي عن ذلك كله قدرته عليه. كله بحديث رسول الله (ص)
بقوله« :ولم أزل في عنفوان فأما الشك فيما علمته ،فلا. «كل مولود يولد على الفطرة،
شبابي -منذ راهقت البلوغ ثم علمت :أن كل ما لا أعلمه فأبواه يهودانه ،وبنصرانه،
على هذا الوجه ،ولا أتيقنه هذا ويمجسانه»( ،)5وراح يطلب
قبل بلوغ العشرين ،إلى النوع من اليقين ،فهو علم لا حقيقة الفطرة وهل الإنسان
الآن وقد أناف السن على ثقة به ،ولا أمان معه ،وكل يولد على دين مفطور عليه،
الخمسين -اقتحم لجة هذا علم لا أمان معه فليس بعلم أي مطبوع عليه ،أم أن الفطرة
البحر العميق ،وأخوض غمرته يقصد بها الطبيعة الإنسانية
خوض الجسور ،لا خوض يقيني)7(. العامة التي يشكلها الآباء
الجبان الحذور ،أتوغل في وهكذا ينبهنا الغزالي إلى أمرين: والمعلمين ،فيكون الدين متحق ًقا
كل مظلمه ،واتهجم على كل بتعاليمهم ،حقيقة لم يكشف
مشكلة ،وأتقحم كل ورطة، فبينما نتمسك بما أثبته لنا لنا الغزالي بوضوح عن أي
واتفحص عن عقيدة كل فرقه، العلم ،يحق لنا أن نندهش من
واستكشف أسرار كل طائفة، العجائب التي يعرضها علينا
لأميز بين محق ومبطل، أصحاب الخوارق والكرامات،
وكأن الطبيعة وقوانينها لعبه
ومتسنن ومبدع.
لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن في يد أصحاب هذه القلوب
أطلع على بطانته.