Page 165 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 165

‫‪163‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

‫التي نبه إليها فرانسيس بيكون‬        ‫تحرره من رق التقليد‪ ،‬فلا‬             ‫الحق في عصره‪ ،‬والذين‬
 ‫في منهجه العلمي‪ ،‬وأقصد بها‬      ‫تغتال شخصيته‪ ،‬ولا تذوب في‬            ‫حصرهم في أربعة أصناف‪:‬‬
 ‫تجنب «أوهام المسرح»‪ ،‬والتي‬      ‫شخصية الآخرين‪ ،‬وإنما يكون‬         ‫‪ -1‬المتكلمون‪ :‬يدعون أنهم أهل‬
 ‫تحدث بسبب احترامنا لمصدر‬
                                   ‫ح ًّرا خال ًصا من رق الأغيار‪،‬‬         ‫النظر والرأي والبرهان‪.‬‬
  ‫الخطأ‪ ،‬ومن هنا ينبه بيكون‬           ‫عب ًدا للحق وحده‪ ،‬يقول‪:‬‬         ‫‪ -2‬الباطنية‪ :‬يزعمون أنهم‬
 ‫إلى أن الباحث العلمي إن شاء‬                                         ‫أصحاب التعليم‪ ،‬والاقتباس‬
  ‫أن يأمن الزلل‪ ،‬لم يكن له بد‬     ‫«فجانب الالتفات إلى المذاهب‪،‬‬
                                     ‫واطلب الحق بطريق النظر‬                 ‫من الإمام المعصوم‪.‬‬
    ‫من وزن الأقوال في ذاتها‪،‬‬                                         ‫‪ -3‬الفلاسفة‪ :‬يزعمون أنهم‬
 ‫بغض النظر عن مكانة رواتها‬       ‫لتكون صاحب مذهب‪ ،‬ولا تكن‬
                                    ‫في صورة أعمي تقلد قائ ًدا‪،‬‬             ‫أهل المنطق والبرهان‪.‬‬
                ‫ومصادرها‪.‬‬           ‫يرشدك إلى طريق وصولك‬               ‫‪ -4‬الصوفية‪ :‬يدعون أنهم‬
   ‫ولقد بلغ من اعتداد الغزالي‬
  ‫بهذه القاعدة أنه ذهب إلى أن‬     ‫ألف مثل قائدك‪ ،‬ينادون عليك‬             ‫خواص الحضرة‪ ،‬وأهل‬
 ‫النتائج اليقينية التي نستدلها‬    ‫بأنه أهلكك وأضلك عن سواء‬                           ‫المشاهدة‪.‬‬
‫من مقدمات يقينية‪ ،‬إذا قيل لك‬
 ‫خلافها‪ ،‬حكاية عن أعظم خلق‬           ‫السبيل‪ ،‬وستعلم في عاقبة‬           ‫لقد وضع الغزالي كل هذه‬
  ‫الله مرتبة‪ ،‬وأجلهم في النظر‬     ‫أمرك ظلم قائدك‪ ،‬فلا خلاص‬             ‫التيارات والمذاهب موضع‬
  ‫والعقليات درجة‪ ،‬بل نقل عن‬                                            ‫الاستقصاء‪ ،‬والنقد‪ ،‬باحثًا‬
‫نبي صادق نقيضه‪ ،‬فينبغي أن‬                ‫إلا في الاستقلال»‪)13(.‬‬      ‫عن مدى اليقين الذي أحرزه‬
  ‫يقطع بكذب الناقل‪ ،‬أو تأويل‬        ‫ب‪ -‬أن الحق مطلوب لذاته‪:‬‬          ‫كل منها‪ ،‬وهو في نقده لهذه‬
 ‫اللفظ المسموع عنه‪ ،‬ولا يخطر‬      ‫يؤكد الغزالي على هذه القاعدة‬     ‫العلوم‪ ،‬وتقييمه لها زود نفسه‬
  ‫ببالك إمكان الصدق‪ ،‬فإن لم‬
‫يقبل التأويل فشك في نبوة من‬           ‫المنهجية‪ ،‬فيؤكد أن الحق‬            ‫بقواعد ثلاث مهمة هي‪:‬‬
‫ُحكي عنه بخلاف ما عقلته‪ ،‬إن‬       ‫يعرف بذاته لا بقائله‪ ،‬معقول‬                 ‫أ‪ -‬رفضه للتقليد‪:‬‬
                                  ‫بذاته‪ ،‬موافق للكتاب والسنة‪.‬‬
          ‫كان ما عقلته يقينًا‪.‬‬                                       ‫يدعو الغزالي إلى نبذ التقليد‪،‬‬
   ‫ولقد بلغ من اعتداده بعلمية‬       ‫يصيغ الغزالي هذه القاعدة‬        ‫كما يدعو إلى الاجتهاد والنظر‬
 ‫النظرة أن ذهب إلى القول بأن‬      ‫المنهجية النقدية قائ ًل‪« :‬فاعلم‬
   ‫الدين لا يحتج به على العلم‪،‬‬                                        ‫العقلي‪ ،‬وهذه دعوة قرآنية‪،‬‬
‫فما يقرره العلم يقينًا‪ ،‬لا يجوز‬     ‫يا أخي أنك متي كنت ذاهبًا‬      ‫وكما كانت نه ًجا للقرآن الكريم‬
 ‫أن يكذبه بما يزعم وروده في‬       ‫إلى تعرف الحق بالرجال‪ ،‬من‬
                                                                        ‫كانت نه ًجا أي ًضا للسلف‬
                     ‫الدين‪.‬‬         ‫غير أن تتكل على بصيرتك‪،‬‬           ‫الصالح‪ ،‬والغزالي في دعوته‬
    ‫ومن ثم فإن الغزالي يضع‬          ‫فقد ضل سعيك‪ ،‬فإن العال ُم‬
    ‫«التواتر» وهو الشائع بين‬     ‫من الرجال‪ ،‬إنما هو كالشمس‬             ‫هذه لا يمنعنا من الاقتداء‬
 ‫الجماهير مما يدور على ألسنة‬        ‫أو كالسراج يعطي الضوء‪،‬‬           ‫بالعلماء في عصرنا‪ ،‬ولا بمن‬
‫الرواة‪ ،‬يضعه في الدرجة الدنيا‬       ‫ثم انظر ببصرك‪ ،‬فإن كنت‬
    ‫من درجات السلم المعرفي‪،‬‬        ‫أعمى فما يغني عنك السراج‬              ‫تقدمنا‪ ،‬لكنه يدعو دعوة‬
 ‫وهو لا يريد حذف التواتر من‬                                           ‫صريحة إلى استعمال الفكر‬
‫مصادر المعرفة ولكن يدعو إلى‬           ‫والشمس‪ ،‬فمن عول على‬            ‫النقدي‪ ،‬الذي يفحص‪ ،‬ويميز‬
‫التثبت منه‪ ،‬وعدم الأخذ به على‬     ‫التقليد هلك هلا ًكا مطلقا»‪)14(.‬‬  ‫بين صحيح الأقوال وفاسدها‪،‬‬
                                                                       ‫والصحيح بلا ريب هو ما‬
                ‫ما هو عليه‪.‬‬           ‫وواضح هنا ارتباط هذه‬
                                     ‫القاعدة بالقاعدة السابقة‪،‬‬          ‫وافق العقل السليم‪ ،‬الذي‬
                                    ‫والتي يقرر فيها الغزالي أن‬       ‫هو الميزان الصحيح‪ ،‬الذي لا‬
                                 ‫من نبض عليه عرق من عروق‬              ‫ينبغي أن يقرر رأ ًيا إلا بعد‬
                                  ‫التقليد لا يصلح لصحبته‪)15(.‬‬       ‫أن يوزن به‪ ،‬ويظهر رجحانه‪،‬‬
                                      ‫وهذه القاعدة في تحليلها‬       ‫وهذه الحاسة النقدية تولد في‬
                                   ‫الأخير تشبه ضروب الخطأ‬          ‫الإنسان شجاعة وحرية فكرية‬
   160   161   162   163   164   165   166   167   168   169   170