Page 170 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 170

‫العـدد ‪١٩‬‬                               ‫‪168‬‬

                                 ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬                            ‫الصوفية لها خصائصها‬
                                                                   ‫المميزة لها عن المعرفة العقلية‬
   ‫إليها في مؤلفاته الصوفية‪،‬‬           ‫من سنة ‪488‬ه إلى سنة‬
 ‫والتي وضع معظمها في فترة‬          ‫‪498‬هـ‪ ،‬وهو لم يفصح عن‬                         ‫الاستدلالية؟!‬
                                 ‫دوافعه الحقيقية‪ ،‬بل أخفى أمر‬           ‫ألم يقل الغزالي بالكشف‬
  ‫الخلوة‪ ،‬أشار إلى مطارحاته‬        ‫سفره عن قصد كما ذكر في‬          ‫الباطني الموصل للب الحقيقة‪،‬‬
  ‫ومكاشفاته‪ ،‬ووصفها بأنها‬        ‫«المنقذ»(‪ ،)37‬هل لخطر الباطنية‬       ‫وهو النور الذي يقذفه الله‬
                                    ‫الذين كانوا يترصدونه بعد‬           ‫في القلب‪ ،‬وتتأسس عليه‬
      ‫غير قابلة للإحصاء‪)39(.‬‬     ‫نشر كتابه «فضائح الباطنية»‪،‬‬          ‫سائر المعارف‪ ،‬حتى يصل‬
     ‫ولعلنا في ختام بحثنا قد‬        ‫واغتيال نظام الملك على أثره‬     ‫إلى طور «الإلهام»‪ ،‬وهو ذلك‬
     ‫أدركنا أن النزعة النقدية‬       ‫عام ‪485‬هـ‪ ،‬وكذلك اغتيال‬         ‫الطور الكفيل بتحقيق المعرفة‬
 ‫التي تميز بها الغزالي اقترنت‬                                     ‫الكلية(‪ ،)36‬التي تصله بصاحب‬
  ‫برحلته في البحث عن اليقين‬           ‫ابنه فخر الملك عام ‪500‬‬        ‫هذه المعرفة‪ ،‬وهو الله تعالي‪،‬‬
   ‫وقد أشرت إلى بعض الآراء‬         ‫وتمثل الخليفة وجماعته من‬       ‫غير أن الاتصال الدائم لا يكون‬
      ‫التي تشعرنا بشيء من‬
  ‫التناقض‪ ،‬فعلي سبيل المثال‪:‬‬                         ‫الأمراء؟‬                       ‫إلا بوحي!‬
  ‫شكه في الحواس ربما يكون‬        ‫ثم لماذا أخفي سفره إلى الشام‬       ‫هل يقصد الغزالي هذا القول‬
  ‫من السهل اليسير‪ ،‬أما شكه‬       ‫عن الخليفة‪ ،‬وجملة الأصحاب‪،‬‬       ‫أم أن مقتضي كلامه يؤدي إلى‬
    ‫في العقل فهو ليس كذلك‪،‬‬
   ‫فهو لم يعطينا مبر ًرا كافيًا‬     ‫فيما يذكر في «المنقذ» ولماذا‬                 ‫هذه النتيجة؟‬
 ‫لطرح الثقة في العقل كمصدر‬                  ‫اختار الشام أو ًل؟‬     ‫هل يكون العارف أو الولي في‬
‫للحقيقة‪ ،‬وكيف يشك فيه وهو‬
   ‫الذي يعتبره مضيئًا للنص‬        ‫كما أن الغزالي لم يذكر لا من‬       ‫مقدوره أن يقترب من مقام‬
‫من جانب‪ ،‬وشار ًحا لمكاشفات‬        ‫قريب ولا من بعيد ماذا صنع‬        ‫النبوة؟! وكيف له أن يقفز من‬
 ‫وإلهامات العارفين من جانب‬                                         ‫مقام الإلهام إلى علياء الوحي؟‬
      ‫آخر؟ وكذلك موقفه من‬           ‫في عزلته وهو يري جحافل‬         ‫من المستبعد أن يكون الغزالي‬
 ‫المنطق الذي ألف فيه مؤلفات‬        ‫الصليبيين تفتح أنطاقيا سنة‬
 ‫متميزة‪ ،‬ولكنه أحيا ًنا يحذرنا‬    ‫‪491‬هـ‪ ،‬وتستولي على القدس‬            ‫يقصد ذلك‪ ،‬هذا أمر شبيه‬
 ‫منه‪ ،‬وأحيا ًنا أخري يدخله في‬                                        ‫بكلام الفارابي في الاتصال‬
‫تفسير الوحي‪ ،‬فيربط في محل‬             ‫سنة‪495‬هـ‪ ،‬هل الخلوة‪،‬‬
                                 ‫وسلوكه طريق الصوفية يؤدي‬               ‫«بالعقل الفعال» (الروح‬
        ‫ويحل في مكان آخر‪.‬‬                                         ‫القدس‪ ،‬الروح الأمين)‪ ،‬وكذلك‬
‫نكتفي بهذه التساؤلات‪ ،‬ولسنا‬          ‫به إلى هذا الموقف السلبي؟‬
 ‫من خلالها ننتقد الغزالي‪ ،‬فهو‬        ‫وهو حجة الإسلام‪ ،‬وزين‬            ‫قول الباطنية بعدم انقطاع‬
                                    ‫الدين ومحجة الدين‪ ،‬وإمام‬        ‫الوحي‪ ،‬لأن العقل الكلي تجلى‬
    ‫الطود الشامخ‪ ،‬له قدرات‬        ‫أئمة الأمة كما يلقبه السبكي!‬    ‫ويتجلى للأفراد من الأئمة‪ ،‬فهو‬
   ‫فائقة في الغوص في أعماق‬       ‫هل عزلته فرضت عليه ذلك‪ ،‬أم‬         ‫يكفر الفارابي والباطنية على‬
   ‫الموضوعات التي يتناولها‪،‬‬         ‫انغماسه في أتون السياسة؟‬
 ‫وينظر فيها من أفقه الفسيح‪،‬‬       ‫هناك من يرى أن عزلته كانت‬                           ‫السواء‪.‬‬
 ‫نثرت هذه التساؤلات‪ ،‬فلربما‬           ‫ذات طابع شكلي لأنه كما‬              ‫سبح الغزالي في بحر‬
    ‫تدفع إلى البحث والتنقيب‬       ‫أخبرنا في «المنقذ من الضلال»‬       ‫التصوف‪ ،‬وجد فيه ضالته‪،‬‬
    ‫والفهم‪ ،‬فالمعرفة الفلسفية‬                                     ‫ولكن ذلك التصوف القائم على‬
  ‫تبدأ بالتساؤل ولا تكف عن‬             ‫أنه كان في فكره‪ :‬الابن‪،‬‬      ‫الكتاب والسنة‪ ،‬محاف ًظا على‬
                                 ‫والوطن‪ ،‬وشواغل الأحداث(‪،)38‬‬         ‫مقامي الربوبية والعبودية‪.‬‬
                   ‫السؤال‪.‬‬       ‫ولكننا مع ذلك لا يمكننا الشك‬     ‫ولكن مما يلفت النظر أن خلوة‬
                                 ‫في أنه سار في وادي التصوف‬           ‫الغزالي وارتحاله من بغداد‬
   ‫والله الموفق إلى سواء السبيل‬   ‫الذي وضعت بذوره الأولى في‬        ‫والتي استمرت عشر سنوات‬
                                 ‫قلبه منذ نشأته الأولى‪ ،‬وطوى‬

                                      ‫العديد من مراحله‪ ،‬أشار‬
   165   166   167   168   169   170   171   172   173   174   175