Page 229 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 229

‫‪227‬‬                ‫ثقافات وفنون‬

                   ‫كتب‬

                                               ‫سلوى الجراح‬                               ‫الأهل والأحبة‪.‬‬
                                                                         ‫بعدها تنتقل إلى البصرة فتصفها‬
                                               ‫في سيرتها تمر‬
                                                                           ‫وص ًفا جمي ًل وتقول‪« :‬البصرة‬
                                               ‫على المدن مرو ًرا‬             ‫في الخمسينيات‪ ،‬مكان رحب‬
                                                ‫مشب ًعا بمعنى‬               ‫مرحب‪ ،‬أهلها ودودون كرماء‬
                                               ‫البدايات الأنيقة‪،‬‬
                                                                           ‫وشطها عذب تحيط به بساتين‬
                                               ‫كانت عكا ثم‬                 ‫نخيلها الوارفة‪ .‬كان أبي وأمي‬

                                               ‫بيروت بعدها‬                    ‫سعداء بحياتهما الجديدة في‬
                                                                        ‫المدينة العامرة وبتكاثر الأصحاب‪.‬‬
                                               ‫البصرة وكركوك‬            ‫فالبصرة منحتهما الفرصة الأولى‬

                                               ‫وبغداد‪ ،‬لن تغفل‬              ‫بعد نكبة عام ثمانية وأربعين‬
                                                                         ‫للانتماء لمكان وناس‪ ،‬انتماء يتيح‬
                                               ‫القاهرة لتعود‬
                                                                           ‫لهما الاستقرار ويمنحهما حياة‬
                                               ‫إلى لندن‪ ،‬رحلة‬           ‫اجتماعية زاخرة وصداقات حميمة‬

                                               ‫نلمس من خلالها‬             ‫خارج نطاق الأسرة الجراحية»‪.‬‬
                                                                            ‫أما بغداد فقد كان لها نصيب‬
                                               ‫أهم التطورات‬
                                                                        ‫الأسد في وصف تفاصيلها وتدليل‬
‫عبد السلام المسدى‬                  ‫إحسان عباس‬  ‫التي كانت تعيش‬                ‫تلك التفاصيل بذاكرة محبة‪:‬‬
                                                 ‫فيها‪ ،‬تلك المدن‬
                                                                          ‫«أحببت بغداد حبًّا لا فكاك منه‪.‬‬
‫سلوى الصغيرة التي تبدأ روايتها‬          ‫العربية والفروقات بينها‪ ،‬لم‬     ‫سحرني دجلة الذي يتلوى حولها‬
     ‫من عكا ومن لحظات الذاكرة‬        ‫تذكر سلوى غير المحبة‪ .‬لا تتهم‬
                                                                           ‫ليحتضن بساتينها‪ ،‬وشوارعها‬
   ‫الأولى‪ ،‬ذاكرة مبكرة الحدة كما‬       ‫غيرها‪ .‬تصف وتترك للمتلقي‬               ‫العريضة وبيوتها الواسعة‪.‬‬
    ‫تصفها‪ ،‬علاقة الطفلة بالمحيط‪،‬‬   ‫الحكم‪ ،‬تلاحظ بذاكرة حادة كل ما‬
  ‫علاقة معرفة واكتشاف إذ ليس‬                                            ‫أحببت أسواقها العامرة وشارعها‬
    ‫من أفكار مسبقة للأطفال ولا‬       ‫مرت به‪ ،‬تبدأ بفلسطين وتنتهي‬            ‫الشهير‪ ،‬شارع الرشيد‪ ،‬قلبها‬
‫فلسفات يفرضونها على المحيط‪ ،‬إلا‬          ‫بالعراق‪ ،‬وهي كما تقول لا‬
‫أن هذا الصوت بقي مستم ًرا طيلة‬                                            ‫النابض بالحركة‪ .‬أحببت وجود‬
 ‫رحلة السنوات بكل ما مر بها من‬      ‫تتعلق بشيء حتى لا يعيق حرية‬              ‫الجيران حولنا بعد عزلتنا في‬
   ‫مشاكسات وصعاب‪ ،‬لا يحاول‬              ‫ووجودها‪ .‬حياتها الطبيعية‪.‬‬
   ‫أن يتعامل معها إلا بالقدر الذي‬                                          ‫المزرعة‪ ،‬مما أضفى على حياتنا‬
 ‫يتيح لها اكتمال الطريق‪ ،‬أي دون‬     ‫وقد يجد المتلقي أن هذه الفلسفة‬        ‫من بهجة لم نعرفها خلال سني‬
‫محاولة لفلسفة الأمور أو التوقف‬          ‫الوحيدة التي تبنتها الكاتبة‪،‬‬      ‫عزلة المزرعة‪ ،‬وفهمت لأول مرة‬
                                        ‫وطوعت حياتها على قياسها‪،‬‬          ‫تقاليد احترام ومحبة الجار التي‬
      ‫في طريقها أو افتراض دور‬                                           ‫كانت تسود المجتمع العراقي‪ ،‬كأن‬
   ‫بطولي لمحاربة طواحين الهواء‪،‬‬    ‫ولعل سببها كان في الفقدان المبكر‬      ‫يقوم الجار الذي يعيش في البيت‬
    ‫بل محاولة واقعية للمضي في‬       ‫للوطن‪ ،‬الأمر الذي كان يستدعي‬         ‫الملاصق لبيت من جاء ليسكن في‬
‫طريق مريح مع السماح بالتجربة‬       ‫دائ ًما بدايات جديدة دون الالتفات‬      ‫الحي بتوفير وجبة الغداء الأولى‬
                                                                           ‫للعائلة‪ ،‬كنوع من التعارف بين‬
                       ‫والخطأ‪.‬‬                    ‫بأسى إلى ما مر‪.‬‬         ‫الجارين‪ ،‬وتخفيف بعض الأعباء‬
       ‫فليس من يقين يبدأ الرحلة‬     ‫تبدأ سلوى سيرتها بتتابع زمني‬        ‫عن العائلة التي تنتقل لبيت جديد‪،‬‬
                                    ‫تاريخي منذ الطفولة حتى لحظة‬            ‫ولم يسمح وقتها بإعداد وجبة‬

                                      ‫كتابة المذكرات‪ ،‬لك ّن ثمة صو ًتا‬                          ‫الغداء»‪.‬‬
                                     ‫سرد ًّيا يبقى مهيمنا على السيرة‬
                                      ‫منذ البداية حتي نهايتها‪ ،‬يمكن‬
‫أن يتمثل بشكلين‪ :‬أحدهما يتعلق وينهيها‪ ،‬تستعمل الكاتبة دائ ًما‬
‫بالصيغة‪ ،‬والآخر بالدلالة‪ .‬ويمكن الاسئلة‪ ،‬وتضع إجابات متأملة‬
‫دون محاولة إقحام فكرة معينة‪،‬‬
                                               ‫توضيحهما بالآتي‪:‬‬

‫في الحياة والعمل والتربية‪،‬‬         ‫‪ -1‬الصوت السردي للطفلة‬
   224   225   226   227   228   229   230   231   232   233   234