Page 94 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 94

‫العـدد ‪١٩‬‬                            ‫‪92‬‬

                                                                ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫غقران طحان‬

‫(سورية)‬

‫ضو ٌء في الشرفة‬

   ‫فيمن يكون قد رأى جدتي على تلك الحال‪ .‬لوهل ٍة‬        ‫لاح لي بياض ناص ٌع يفيض من شرفة بيتنا‪ ،‬المسافة‬
 ‫ظننتني هناك أي ًضا بين قدميها كتل ًة سمراء عارية‪،‬‬          ‫التي كانت تفصلني عن تع ّرف ماهيته جعلتني‬

     ‫وهي تدعك شعري الكثيف بأصابعها البيضاء‬             ‫أنسحب بهدوء من بين جمع فتيان الح ّي المشغولين‬
                                        ‫النحيلة‪.‬‬          ‫بالكرة‪ ،‬وأسرع الخطا بحذر خشية أن يتنبه أ ّي‬

 ‫صعدت الدرج دفعة واحدة‪ ،‬طرقت الباب بك ّل قوة‪،‬‬            ‫أحد إلى ما رأيته‪ ،‬ولك ّن صديقي تنبه مثلي إلى ذاك‬
‫فتحت أ ّمي بخوف‪ ،‬وقالت‪ :‬ما بك؟ هل يلاحقك أحد‬             ‫البياض‪ ،‬وصاح بي‪ :‬الشمس تشرق من شرفتك!‬

      ‫ما؟ قلت‪ :‬كيف تتركينها وحدها على الشرفة؟‬              ‫ركضنا هذه الم ّرة م ًعا‪ ،‬ورأينا م ًعا أي ًضا أ ّن ذاك‬
 ‫كنت ألهث‪ ،‬وأنا أعبر الفسحة الكبيرة لبيتنا‪ ،‬وأ ّمي‬       ‫البياض يش ّع من جس ٍد مكشوف الصدر والبطن؛‬
                                                          ‫جي ٌد لام ٌع تكسوه بعض الخطوط العميقة‪ ،‬نهدان‬
     ‫تلحق بي‪ ،‬حتى وصلت غرفتها‪ ،‬ث ّم فتحت باب‬              ‫في كما ٍل باهت يتدليان صوب بطن مترهل قلي ًل‬
‫الشرفة‪ ،‬كان جسد جدتي الناصع يشرق هناك بك ّل‬
                                                         ‫تتو ّسطه س ّر ٌة كبيرة‪ ،‬وبياض كثي ٌر‪ ..‬كثير يفيض‬
    ‫صخب‪ ،‬بينما كانت تضع شيئًا من ملابسها في‬                                              ‫من ك ّل شيء‪.‬‬
  ‫وعاء بلاستيك ّي صغير‪ ،‬وتدعكها بصابون الغار‪.‬‬
   ‫أبعدت عن خيالي المجنون فكرة كوني هناك‪ ،‬بين‬                 ‫خرست تما ًما أمام هول المشهد‪ ،‬حتى صاح‬
                                                                           ‫صديقي‪ :‬أليست هذه جدتك؟!‬
       ‫يديها‪ ،‬متلب ًسا بخجل طفولتي‪ ،‬وتطلعت نحو‬
‫الشارع‪ ،‬فانتبهت إلى أ ّن عين ّي صديقي الفضوليتين‬           ‫مع صرخته تلك‪ ،‬عدت إلى طفولتي التي لم تكن‬

   ‫مازالتا ترقبان الحدث‪ ،‬وبحركة سريعة وخشنة‪،‬‬               ‫بعيد ًة ج ًّدا‪ ،‬حيث كانت جدتي تغسلني ببياضها‬
‫سحبت جدتي من ذراعها إلى داخل الغرفة‪ ،‬وصحت‬                  ‫العاري‪ ،‬وببعض الأغنيات القديمة‪ .‬ث ّم استعدت‬
                                                         ‫وعيي‪ ،‬وتطلعت نحو ابتسامة صديقي الماكرة‪ ،‬ث ّم‬
                         ‫بها‪ :‬جدتي أنت مجنونة!‬         ‫صفعته على وجهه‪ ،‬وقلت له‪ :‬اخرس‪ ،‬هذه الخادمة‪،‬‬
    ‫أ ّمي التي صدمت من رؤية أ ّمها على هذه الحال‬
    ‫وقفت تبكي بخوف‪ ،‬ولك ّن خوفها لم يمنعها من‬                             ‫وسأعرف كيف أتعامل معها‪..‬‬

                       ‫صفعي على وجهي بش ّدة‪.‬‬           ‫مسح صديقي ما سال على طرف فمه من دماء‪ ،‬ث ّم‬
  ‫ولكنني واصلت الصراخ قائ ًل‪ :‬لقد رآها صديقي!‬          ‫قهقه ساخ ًرا‪ ،‬وقال‪ :‬خادمتكم مجنونة‪ ،‬ولكنّها أكثر‬

           ‫أ ّي خب ٍر عظي ٍم سينتشر غ ًدا في المدرسة!‬                                   ‫بيا ًضا من أ ّمي!‬
     ‫كانت أ ّمي تنظر نحوي بذهول‪ ،‬تقف ملتاث ًة لا‬         ‫لم ألتفت لأر ّد عليه‪ ،‬كنت كالمجنون أقطع المسافة‪،‬‬
   ‫تدري ماذا تفعل؟ أ ّمها الخرفة شبه العارية تقف‬
                                                           ‫وأنا أنظر خلفي بين حين وآخر‪ ،‬أفكر بتوجس‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99