Page 98 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 98
العـدد ١٩ 96
يوليو ٢٠٢٠
عزة بوقاعدة
(الجزائر)
الزائر
يا له من منظر ويا له من رجل! كم أحبه.. فتحت الباب على مصراعيه ،كال ّضوء مر! حتى أنه لم
تمتم مع خطه لحروف على الورق ،مددت عنقي إلى يعطني فرصة للشعور بالذعر! تلعثمت مع رجفة ذقني
الأمام قلي ًل لكن لم أستطع رؤية شيء! وضع القلم على
الدفتر المفتوح ونهض متثاق ًل ،كل خطوة باتجاهي كان المعهودة:
قلبي ينتفض كطائر ذبيح! كانت ست خطوات مقتضبة -يبدو يا سيدي أنني أعرفك!
أوصلته إل َّي ،عند حدود كتفي الأيسر توقف لثوا ٍن ،ربت قلت ذلك وأنا متأكد مما تراه عيناي .نحافة جسده،
عليه مرتين وغادر بعد أن أوصد الباب ،لم ألتفت وراءه، سحنة ملامحه ،وقاره وحتى نظراته.
أخذت نف ًسا عمي ًقا وأرخيت عضلاتي من كل التشنجات جلس إلى مكتبي صامتًا هاد ًئا وكأنه في غرفته! حرك
وهجمت على مكتبي ،تطايرت الأوراق بلغت السقف، رأسه مع كل صفحة يقلبها من دفتري ،شعرت بالتوتر
قفزت كالقرد أقتطفها من الهواء ،لا تعنيني جميعها بل والحرج في نفس الوقت ،أمسكت وجهي لا أدري كيف
أبدو ،سأكون أقرب إلى فاكهة الخوخ ،فكرت فيها وأنا
تلك التي شرفها بحروفه ،صرخت كالمجنون: أكره تناولها ،لمحت جوربي المثقوب فزاد فزعي ثم
-ها هي! أن ِت لي وما خط علي ِك! انتبهت للمنامة التي أرتدي ..لونها القرمزي يذكرني
بجارتي (سندس) التي ظلت وفية له رغم تقدمها في
وقعت تحت السرير ،تبعتها وعيناي تحاولان القراءة العمر ،انكمشت كلي دهشة من زيارته لي وأنا العبد
ولو حرف مما كتبه ،سحبتها بأصابعي ،كلما اقتربت البسيط الذي لا يعرف أحد من الناس سوى أولئك
تسارعت نبضات قلبي! تلقيت ضربة من حافة السرير الذين وهبوا أنفسهم للآخرين في كتبهم ،وبحبر
أقلامهم صنعوا جسو ًرا يمتد عبرها الأجيال ،حينما
جعلتني أرى تلك العصافير الزاهية الألوان التي كنت أغرق في فوضى أفكاري حمل قلمي المحلي الصنع
يتكلمون عنها! زيادة على ذلك سمعت المنبه يطلق رنينًا الذي اشتريته مساء الأمس من دكان المواد الغذائية
بعشر دنانير لم أستعمله بعد ،يا إلهي ماذا إن لم ينزف
مزع ًجا ،سكن أذني طنينه المرتد وألم فظيع أغمضت
له عيني لثوا ٍن ،فتحتهما فإذا بي ملقى على الأرض، حبره!
نهضت وسط فوضى أغطيتي ،كلما استعملت أكثر من تبا لي ،دائ ًما أقتني الأقلام الأقل سع ًرا ،وألف تب
غطاء أقع من سريري ،مشيت إلى مكتبي وهو الآخر
يشهد بفوضوية حياتي ،نظرت إلى دفتري وإلى جانبه لراتبي الزهيد!
كتاب الشحاذ الذي يرافق وحدتي هذه الأيام! صاحبه بهدوء أخذ ورقة ،وضعها على الدفتر ،حب كبير يملؤه،
من زارني في حلمي أو يقظتي فلا فرق لد َّي في ذلك. في إمساكه للقلم في معاملته للورق في جلوسه وتركيزه،
فمن كتب لا يمكنه أن يموت.