Page 95 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

     ‫كانت أ ّمي تجري اتصالاتها مع أبي‪ ،‬وإخوتها‪،‬‬        ‫أمامها بكامل هدوئها وكأ ّنها لم تفعل شيئًا‪ ،‬وابنها‬
‫والأقرباء‪ ،‬لتعلمهم بموت جدتي‪ ،‬وأنا أجلس بالقرب‬
                                                       ‫الذي كبر فجأة يصرخ بجدته‪ .‬حاولت أ ّمي أن‬
    ‫من سريرها مرتع ًشا لا من الموت‪ ،‬بل من فكرة‬         ‫تنق ّض عليَّ لتضربني مجد ًدا‪ ،‬عندما مدت لها جدتي‬
  ‫راحت تل ّح عليّ‪ ،‬فكرة الكشف عن جسدها‪ ،‬وتأمل‬          ‫يدها بهدوء‪ ،‬وقالت‪ :‬أكملي غسل الثوب الفضي‬

                   ‫بياضها الحنون للم ّرة الأخيرة!‬      ‫بالصابون جي ًدا‪ ،‬وانشريه ليجف‪ ،‬إنني أحتاجه‪.‬‬
‫لم يكن بمقدور يدي المرتجفة فعل شيء كثير‪ ،‬قلت‪:‬‬          ‫ث ّم اقتربت من خزانتها وهي تغني لأ ّم كلثوم» رق‬
                                                       ‫الحبيب وواعدني»‪ ،‬أخرجت ثو ًبا جدي ًدا‪ ،‬وكست به‬
    ‫سأنتظر حتّى يحين وقت التغسيل‪ ،‬فقد شهدت‬                                               ‫بياض جسدها‪.‬‬
  ‫مشه ًدا مماث ًل عندما كنت في العاشرة من عمري‪،‬‬
                                                       ‫ساءني هدو ُءها ولا مبالاتها بفعلها المجنون‪،‬‬
    ‫كانت ع ّمتي هي المتوفاة‪ ،‬ولم أكن ألقي با ًل لك ّل‬  ‫فصرخت‪« :‬خرفانة»‪.‬‬
 ‫ما يحدث حولي‪ ،‬لولا أن رأيت تجمع النسوة حول‬
                                                       ‫لم تكن تنظر نحوي‪ ،‬كانت تمشي ببطء نحو مرآتها‪،‬‬
                ‫جسد عا ٍر‪ ،‬يغسلنه‪ ،‬وه ّن ينتحبن‪.‬‬
‫وقفت أتفرج‪ ،‬قبل أن تلحظ أ ّمي وجودي‪ ،‬وتحملني‬           ‫لتصفف شعرها‪ ،‬وهي تغني‪.‬‬
                                                       ‫صوتها أعادني طف ًل يتسلل بعض الصابون إلى‬
  ‫من ياقة قميصي‪ ،‬وترميني في حضن جدتي التي‬
            ‫كانت حينها تدرك الأشياء من حولها‪.‬‬          ‫عينيه فيبكي‪ ،‬فتبلل جدته وجهه بماء له نكهة الغار‪،‬‬

‫قالت لي‪ :‬للموت رهبته يا صغيري‪ ،‬فلا تتحرش به‪،‬‬           ‫وتقول‪ :‬أغمض عينيك جي ًدا‪ .‬أذكر أنني كنت أفتح‬
                ‫ولا تزعج عمتك في غيابها الأخير‪.‬‬        ‫لأخزن ك ّل ذاك البياض في ذاكرتي‪،‬‬  ‫الألم‬  ‫عين َّي رغم‬
                                                       ‫على نهديها حيث تتشك ّل اندفاعات‬   ‫يد ّي‬  ‫بل ولأمرر‬
‫بعد قليل من الوقت دخلت أ ّمي الغرفة‪ ،‬وهي تحمل‬
  ‫الثوب الف ّضي الذي كانت جدتي تغسله‪ ،‬قالت لي‪:‬‬         ‫الماء عليهما لؤل ًؤا وحليبًا‪.‬‬
  ‫ساعدني في تغيير ثيابها‪ ،‬ليودعها الناس في ثوبها‬       ‫تذكرت أنني كنت أستسلم لعملية الفرك الخشنة‬
                                                       ‫بالكيس الأسود‪ ،‬وأنا أؤمن بأ ّنها ستجعل منّي‬
                                     ‫الذي تحبّه!‬
‫ساعدت أ ّمي في نزع ثياب جدتي‪ ،‬كان بياضها يش ّع‬              ‫أبيض مشر ًقا مثلها‪ ،‬حتى سألتها يو ًما‪ :‬هل‬
 ‫مني ًرا ك ّل ما حوله‪ ،‬ولكنني لمحت على طرف ذراعها‬      ‫سيصير جسدي أبيض كجسدك يو ًما؟ فضحكت‪،‬‬
                                                       ‫وقالت‪« :‬لا‪ ،‬ولكني سأمتلك بعض لونك عندما‬
   ‫علامة سمراء داكنة‪ ،‬تتشكل كأصابع تقبض على‬
   ‫يدها‪ ،‬دققت النظر فيها‪ ،‬كانت علام ُة يدي عندما‬                                                ‫أموت»‪.‬‬

                            ‫جررتها نحو الداخل‪.‬‬         ‫من يومها لم أعد ألمسها خو ًفا عليها من الموت‪ ،‬ولم‬
   ‫ارتعشت‪ ،‬ث ّم تراجعت خطوات إلى الوراء‪ ،‬ود ّوى‬
                                                       ‫أعد أسمح لها بفركي بكيسها الخشن‪.‬‬
     ‫الخوف في داخلي‪ ،‬تركت أ ّمي‪ ،‬وركضت خارج‬            ‫ك ّل تلك الذكريات غمرتني بالحنين‪ ،‬بل بالخزي من‬
 ‫الغرفة‪ ،‬وأنا أردد «لقد قتلتها»‪ ،‬ك ّل الأدلة تشير إلى‬  ‫فعلتي‪ ،‬ولكنني وعيت إلى أنني لم أعد طف ًل‪ ،‬وأ ّنها‬
‫فعلتي الشنيعة تلك‪ ،‬أصابعي المطبوعة بك ّل سمارها‬
 ‫الذي بات يميل نحو الأسود مؤخ ًرا أكبر دليل على‬        ‫لم تعد تلك الجدة الحكيمة التي أح ّب‪.‬‬
                                                       ‫اندفعت خارج الغرفة وفي نيتي أن أخبر والدي‬
                                 ‫فعلتي الحمقاء‪.‬‬
‫لم يوجه لي أ ّي اتهام‪ ،‬بل لم يهتموا أص ًل بالتق ّصي‬    ‫بهدوء قبل أن يصله الخبر من أ ّي أحد آخر‪.‬‬
                                                        ‫بعد أكثر من ساعة‪ ،‬سمعت أنينًا مكتو ًما من غرفة‬
    ‫حول أسباب الوفاة‪ ،‬كلّهم سلّم بموت أبيض لا‬          ‫جدتي‪ ،‬تلاه صرخات وعويل‪ ،‬كانت أ ّمي تبكي أ ّمها‬
  ‫شيء قبله أو بعده‪ ،‬وخرجت جثّة جدتي البيضاء‬
                                                           ‫التي استلقت على سريرها جثّة بيضاء هامدة‪.‬‬
              ‫من بيتنا من دون أ ّي مشاكل تذكر‪.‬‬
  ‫ولك ّن الشرفة وحدها تعرف‪ ،‬فكلما نظرت نحوها‬               ‫ارتبكت تما ًما عندما لمحت جثتها الهادئة‪ ،‬كانت‬
                                                       ‫تبدو نائمة‪ ،‬لولا بعض الاصفرار الذي علا جسدها‬
                ‫من المسافة ذاتها‪ ،‬فاضت بالعتمة‪.‬‬
                                                       ‫الأبيض‪ ،‬وانقطاع نفسها‪ .‬وحدها ابتسامتها كانت‬
                                                       ‫تحوم بالقرب من الجثّة‪ ،‬وصوتها يتردد في أذني‪،‬‬

                                                       ‫وهي تغني «رق الحبيب»‪.‬‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100