Page 172 - m
P. 172

‫العـدد ‪59‬‬                              ‫‪170‬‬

                               ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬                        ‫وكيف يعبث بعقول الأفراد‬
                                                                  ‫ومنافعهم فيما يكون بينهم‬
   ‫يتعرفون عليها ويتفهمون‬      ‫من خطر هذا الشك والإنكار‪.‬‬         ‫وبينه من حوار‪ .‬وهكذا اتخذ‬
    ‫حدودها وما انطوت عليه‬      ‫ولم يسلم الدين من خطر هذا‬          ‫السفسطائيون من الفلسفة‬
‫من المعارف وما يتلاءم معها‬      ‫الشك‪ ،‬ولم يسلم منه النظام‬
    ‫من السلوك والآداب‪ ،‬بل‬       ‫السياسي الأثيني أي ًضا‪ ،‬فقد‬         ‫والدرس وسيلة إلى المجد‬
‫انصرفوا إلى الكون وعناصر‬                                            ‫وكسب المال‪ .‬أما سقراط‬
  ‫الطبيعة‪ ،‬فجانبهم الصواب‬         ‫كان سقراط يحاور في كل‬              ‫‪ -‬كما يراه طه حسين‪-‬‬
    ‫فيما راموا الوصول إليه‬         ‫شيء‪ ،‬ويخضع كل شيء‬               ‫فلم يكن يلتمس مج ًدا ولا‬
                                                                  ‫كسبًا لكنه أراد الحقيقة(‪.)10‬‬
     ‫بسبب الخطأ في المنهج‪.‬‬               ‫للشك والإنكار(‪.)12‬‬      ‫فسقراط هو من أشرف على‬
   ‫وعظمة سقراط التي يراها‬         ‫وفي تصور طه حسين أن‬           ‫قيادة الفكر الإنساني‪ ،‬ويعتبر‬
   ‫طه حسين‪ ،‬أنه لم يشأ أن‬                                        ‫التفكير السقراطي في منهجه‬
‫يقع فيما وقع فيه القدماء من‬          ‫لسان سقراط هو الذي‬             ‫وطريقته رد فعل قوي لما‬
‫التناقضات والأخطاء‪ ،‬فوضع‬             ‫قضى عليه بالموت‪ ،‬فقد‬          ‫كان عليه العصر اليوناني‬
    ‫لنفسه هذه القاعدة‪ ،‬وهي‬          ‫عبر عن فكره وترجم ما‬
  ‫أن الفلسفة تبدأ منذ اللحظة‬     ‫كان يضطرب في نفسه من‬                 ‫في مظاهره الاجتماعية‬
‫الأولى بتحليل ودراسة النفس‬                                      ‫والثقافية‪ ،‬وغيرهما من طرق‬
   ‫الإنسانية‪ ،‬ولذا فإنه يعتقد‬           ‫الخواطر والآراء(‪.)13‬‬
 ‫أن من لم يعرف نفسه‪ ،‬فلن‬       ‫يروي التاريخ أن سقراط كان‬            ‫معاملة الناس وعلاقاتهم‬
   ‫يتأتى له أن يح ِّصل شيئًا‬                                         ‫على المستويات الخاصة‬
   ‫من المعرفة‪ ،‬ومن لم يحلل‬        ‫ثائ ًرا على القانون اليوناني‬
                                 ‫ومعار ًضا للنظام السياسي‬                        ‫والعامة(‪.)11‬‬
      ‫شخصيته لن يستطيع‬           ‫الذي كان يسود اليونان في‬        ‫ويرى طه حسين أن سقراط‬
 ‫التقدم خطوة مهما أوتي من‬       ‫عصره‪ ،‬ولقد أدت ثورته تلك‬
‫أسباب العلم ووسائل الدرس‬        ‫به إلى السجن وانتهت به إلى‬         ‫لم يكن يتخذ عداوة الدين‬
‫والبحث‪ ،‬فالبداية هو الإنسان‬    ‫الحكم عليه بالموت‪ ،‬وما حدث‬           ‫مذهبًا‪ ،‬ولا الخروج عليه‬
                               ‫لسقراط حدث لبعض الشعراء‬            ‫غاية لفلسفته أو حواره‪ ،‬بل‬
  ‫والنفس الإنسانية‪ ..‬هذا ما‬     ‫والفلاسفة على مر العصور‪،‬‬           ‫نستطيع أن نقول إنه كان‬
        ‫ينبغي أن نبدأ به(‪.)15‬‬  ‫ولكل صاحب رأي حر‪ ،‬حدث‬              ‫من أشد معاصريه محافظة‬
                                 ‫لدينا في تاريخنا الإسلامي‪،‬‬         ‫واعتدا ًل‪ ،‬فكان يقف ضد‬
     ‫أما عن منهج سقراط في‬       ‫فليس من شك أن المتنبي قد‬             ‫السفسطائية‪ ،‬ويريد أن‬
  ‫البحث وطريقته في التفكير‪،‬‬      ‫قتله لسانه حين انحرف به‬             ‫يهدم مذاهبهم في الشك‪،‬‬
  ‫فلم يكن سقراط كغيره من‬        ‫عن العروبة إلى مدح الفرس‬             ‫ويرد إلى العقل سلطانه‪،‬‬
 ‫الفلاسفة الذين تقدموه‪ ،‬ولا‬      ‫والثناء عليهم‪ .‬فالآراء تقتل‬        ‫ويبين أن حقائق الأشياء‬
   ‫كغيره من الفلاسفة الذين‬                                       ‫ثابتة‪ ،‬ولكنه كان يحاور على‬
                                        ‫أصحابها أحيا ًنا(‪.)14‬‬     ‫طريقة السفسطائية‪ ،‬ويتخذ‬
   ‫جاءوا بعده بزمن قصير‪،‬‬         ‫واعتقد طه حسين كسقراط‬               ‫الشك سبي ًل إلى اليقين‪،‬‬
     ‫يواجه المباحث الفلسفية‬                                       ‫ولم يكن يكره أن يضع كل‬
      ‫مباشر ًة‪ ،‬ويهجم عليها‬         ‫أن الخطأ الذي وقع فيه‬          ‫شيء موضع البحث‪ ،‬وأن‬
  ‫هجو ًما عني ًفا‪ ،‬حتى يخلص‬    ‫القدماء من الفلاسفة هو أنهم‬       ‫يعرض كل شيء للشك حينًا‬
 ‫منها إلى نتائجها‪ ،‬وإنما كان‬   ‫لم يتجهوا الاتجاه السليم من‬      ‫وللإنكار حينًا آخر‪ ،‬فلم َي ْسلم‬
 ‫يدور حول المباحث الفلسفية‬                                          ‫الدين ولا غيره مما كانت‬
    ‫في رفق ولطف‪ ،‬ولا يزال‬        ‫الناحية المنهجية‪ ،‬فقد كانت‬        ‫تحتفظ به الجماعة الإثينية‬
     ‫يدور حولها‪ ،‬حتى يجد‬         ‫بداية بحوثهم بداية خاطئة‪.‬‬
 ‫مسل ًكا ضي ًقا يسلكه فينتهي‬     ‫فخطأ السابقين على سقراط‬
                               ‫–كما عرضه طه حسين– خطأ‬
                                 ‫منهجي‪ ،‬فلم يتجه هؤلاء في‬
                               ‫أبحاثهم إلى النفس الإنسانية‪،‬‬
   167   168   169   170   171   172   173   174   175   176   177